الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ }

قوله تعالى: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ }: كقوله:فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ } [البقرة: 50] من كونِ الباء يجوز أن تكونَ للتعدية، وأن تكون للحالية كقوله:
2284ـ.................   تَدوسُ بنا الجماجمَ والتَّريبا
وقد تقدَّم ذلك. وجاوز بمعنى جاز. ففاعَل بمعنى فَعَل. وقرأ الحسن وإبراهيم وأبو رجاء ويعقوب: جَوَّزنا بالتشديد، وهو أيضاً بمعنى فَعَل المجردِ كقَدَر وقدَّر.

قوله: { يَعْكُفُونَ } صفة لـ " قوم ". وقرأ الأخَوَان " يعكفون " بكسر العين، ويُروى عن أبي عمرو أيضاً. والباقون بالضم، وهما لغتان في المضارع كيَعْرشون. وقد تقدَّم معنى العكوف واشتقاقُه في البقرة.

قوله: { كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } الكافُ في محلِّ نصب صفة لإِلهاً، أي: إلهاً مماثلاً لإِلههم. وفي " ما " ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنها موصولةٌ حرفية أي: تَتَأوَّل بمصدرٍ، وعلى هذا فصلتُها محذوفة، وإذا حُذِفت صلة " ما " المصدرية فلا بد من إبقاء معمولِ صلتها كقولهم: " لا أكلِّمكَ ما أنَّ حِراءَ مكانَه " أي: ما ثبت أن حراء مكانه. وكذا هنا تقديره: كما ثبت لهم آلهة، فآلهة فاعل بـ " ثبت " المقدر. وقال أبو البقاء ـ في هذا الوجه ـ: " والجملة بعدها صلةٌ لها، وحسَّن ذلك أن الظرفَ مقدرٌ بالفعل ". قلت: كلامُه على ظاهره ليس بجيد؛ لأن " ما " المصدريةَ لا تُوْصَلُ بالجملة الاسمية على المشهور، وعلى رأي مَنْ يُجَوِّز ذلك فيشترط فيها غالباً أن تُفْهِم الوقت كقوله:
2285ـ واصِلْ خليلَكَ ما التواصلُ ممكنٌ   فلأَنْتَ أَوْ هُوَ عن قريبٍ ذاهبُ
ولكنَّ مرادَه أنَّ الجارَّ مقدَّرٌ بالفعل، وحينئذ تَؤُول إلى جملة فعلية أي: كما استقرَّ لهم آلهةٌ.

الثاني: أن تكونَ " ما " كافَّةً لكاف التشبيه/ عن العمل فإنها حرف جر. وهذا كما تُكَفُّ " رُبَّ " ، فيليها الجملُ الاسمية والفعلية، ولكن ليس ذلك على سبيل الوجوب، بل يجوزُ في الكاف وفي " رب " مع ما الزائدة بعدهما وجهان: العملُ والإِهمالُ، وعلى ذلك قول الشاعر:
2286ـ ونَنْصُرُ مولانا ونعلمُ أنَّه   كما الناسُ مجرومٌ عليه وجارِمٌ
وقول الآخر:
2287ـ رُبَّما الجامِلُ المُؤَبَّلُ فيهمُ   وعناجيجُ بينهنَّ المَهارى
يروى برفع " الناس " و " الجامل " وجرِّهما. هذا إذا أمكن الإِعمال. أمَّا إذا لم يمكن تَعَيَّن أن تكونَ كافَّةً كهذه الآيةِ إذا قيل بأن " ما " زائدة.

الثالث: أن تكون " ما " بمعنى الذي، و " لهم " صلتها وفيه حينئذ ضميرٌ مرفوعٌ مستتر، و " آلهة " بدل من ذلك الضمير. والتقدير: كالذي استقر هو لهم آلهة. وقال أبو البقاء ـ في هذا الوجه: " والعائد محذوف و " آلهة " بدلٌ منه تقديره: كالذي هو لهم " وتسميتُه هذا حَذْفاً تسامحٌ؛ لأن ضمائر الرفع إذا كانت فاعلةً لا تُوصف بالحذف بل بالاستتار.