الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَٰتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ ٱلْكَٰفِرِينَ }

قوله تعالى: { تِلْكَ ٱلْقُرَىٰ نَقُصُّ }: قال الزمخشري: كقولهوَهَـٰذَا بَعْلِي شَيْخاً } [هود: 72] في كونه مبتدأً وخبراً وحالاً " يعني أن " تلك " مبتدأٌ مشارٌ بها إلى ما بعدها، و " القرى " خبرها، و " نقصُّ " حال أي قاصّين كقوله:فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } [النمل: 52]. قال الزمخشري: " فإن قلت: ما معنى " تلك القرى " حتى يكون كلاماً مفيداً؟ قلت: هو مفيد ولكن بالصفة في قولك: " هو الرجلُ الكريم ". قلت: يعني أن الحالَ هنا لازمةٌ ليفيدَ التركيب، كما تلزم الصفة في قولك: " هو الرجل الكريم " ألا ترى أنك لو اقتصرت على " هو الرجل " لم يكن مفيداً، ويجوز أن تكون " القرى " صفةً/ لتلك، و " نقصُّ " الخبر، ويجوز أن يكون " نَقُصُّ " خبراً بعد خبر. و " نقصُّ " يجوز أن يكون على حاله من الاستقبال أي: قد قَصَصْنا عليك من أنبائها ونحن نقصُّ عليك أيضاً بعضَ أنبائها، وأُشير بالبعد تنبيهاً على بُعد هَلاكِها وتقادُمِه عن زمن الإِخبار فهو من الغيب. وفي قوله " القرى " بأل تعظيمٌ كقوله تعالى: " ذلك الكتابُ " ، وقول الرسول عليه السلام: " أولئك الملأُ من قريش " وقول أمية:
2254ـ تلك المكارمُ لا قَعْبانِ من لبنٍ   شِيبا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا
و " مِنْ " للتبعيض كما تقدَّم، لأنه إنما قَصَّ عليه عليه السلام ما فيه عِظَةٌ وانزجارٌ دونَ غيرهما.

قوله: { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ } الظاهر أن الضمائرَ كلَّها عائدةٌ على أهل القرى، وقال يمان بن رئاب: " إن الضميرين الأوَّلَيْن لأهل القرى، والضمير في " كذَّبوا " لأسلافهم ". وكذا حَرَّر ابن عطية أيضاً أي: فما كان الأبناء ليؤمنوا بما كذَّب به الآباء وقد تقدَّم الكلامُ على لام الجحود وأنَّ نَفْيَ الفعل معها أبلغ. و " ما " موصولةٌ اسميةٌ، وعائدُها محذوفٌ لأنه منصوب متصل أي: بما كذَّبوه. ولا يجوز أن يُقَدَّر " به " وإن كان الموصولُ مجروراً بالباء أيضاً لاختلاف المتعلَّق.

وقال هنا { بِمَا كَذَّبُواْ } فلم يذكر متعلق التكذيب، وفي يونس ذكره فقال:بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ } [يونس: 74]، والفرق أنه لمَّا حذفه في قولهوَلَـٰكِن كَذَّبُواْ } [الأعراف: 96] استمرَّ حَذْفُه بعد ذلك، وأمَّا في يونس فقد أبرزه في قولهفَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ } [يونس: 74]كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } [يونس: 73] فناسب ذكرَه موافقةٌ. قال معناه الكرماني.

قوله: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ } أي: مثلَ ذلك الطبعِ على قلوب أهل القرى المنتفي عنهم الإِيمانُ يطبعُ الله على قلوب الكفرة الجائين بعدهم.