قوله تعالى: { وَكَذَّبْتُم بِهِ }: في هذه الجملة وجهان، أحدهما: أنها مستأنفةٌ سيقت للإِخبار بذلك. والثاني: أنها في محصل نصب على الحال، وحينئذ هل يُحتاج إلى إضمار " قد " أم لا؟ والهاء في " به " يجوز أن تعود على " ربي " وهو الظاهر. وقيل: على القرآن لأنه كالمذكور. وقيل على " بَيِّنَة " لأنها في معنى البيان. وقيل: لأن التاء فيها للمبالغة، والمعنى: على أمرٍ بَيِّنٍ من ربي، و " من ربي " في محل جر صفة لـ " بينة " قوله: { يَقُصُّ ٱلْحَقَّ } قرأ نافع وابن كثير وعاصم: " يقص " بصاد مهملة مشددة مرفوعة، وهي قراءة ابن عباس، والباقون بضاد معجمة مخففة مكسورة، وهاتان في المتواتر. وقرأ عبد الله وأُبَيّ ويحيى بن وثاب والنخعي والأعمش وطلحة: " يقضي بالحق " من القضاء. وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد: " يقضي بالحق وهو خير القاضين " فأمَّا قراءة " يقضي " فمِن القضاء. ويؤيده قوله: " وهو خير الفاصلين " فإنَّ الفصل يناسب القضاء، ولم يُرْسَم إلا بضاد، كأن الباء حُذِفَتْ خَطَّاً كما حذفت لفظاً لالتقاء الساكنين، كما حذفت من نحو:{ فَمَا تُغْنِ ٱلنُّذُرُ } [القمر: 5]، وكما حُذِفَتْ الواو في{ سَنَدْعُ ٱلزَّبَانِيَةَ } [العلق: 18]{ وَيَمْحُ ٱللَّهُ ٱلْبَاطِلَ } [الشورى: 24] لما تقدم. وأمَّا نصب " الحق " بعده ففيه أربعة أوجه، أحدها: أنه منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف أي: يقضي القضاء الحق. والثاني: أنه ضمَّن " يقضي " معنى يُنْفِذ، فلذلك عدَّاه إلى المفعول به، الثالث: أن " قضى " بمعنى صنع فيتعدَّى بنفسه من غير تضمين، ويدل على ذلك قوله:
1936- وعليهما مَسْرُودتان قضاهُما
داودُ....................
أي: صَنَعَهما. الرابع: أنه على إسقاط حرف الجر أي: يقضي بالحق، فلما حذف انتصب مجروره على حَدِّ قوله:
1937- تمرُّون الدِّيار فلم تَعْوجوا
.................
ويؤيد ذلك: القراءةُ بهذا الأصل. وأما قراءة " يَقُصُّ " فمِنْ " قَصَّ الحديث " أو مِنْ " قصَّ الأثر " أي: تَتَبَّعه. وقال تعالى:{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ ٱلْقَصَصِ } [يوسف: 3]. ورجحَّ أبو عمرو بن العلاء القراءة الأولى بقوله: " الفاصلين " ، وحُكي عنه أنَّه قال: " أهو يَقُصُّ الحقَّ أو يقضي الحقَّ أو يقضي الحق " فقالوا: " يقصُّ " فقال: " لو كان " يقص " لقال: " وهو خير القاصِّين " اقرأ أحدٌ بهذا؟ وحيث قال: { وَهُوَ خَيْرُ ٱلْفَاصِلِينَ } فالفصل إنما يكون في القضاء " وكأن أبا عمرو لم يَبْلُغْه " وهو خير القاصِّين " قراءةً. وقد أجاب أبو علي الفارسي عما ذكره ابن العلاء فقال: " القصصُ هنا بمعنى القول، وقد جاء الفصل في القول أيضاً قال تعالى:{ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } [طارق: 13] وقال تعالى:{ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [هود: 1]. وقال تعالى:{ وَنُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } [التوبة: 11] فقد حمل الفَصْل على القول، واستُعمل معه كما جاء مع القضاء فلا يلزم " من الفاصلين " أن يكون مُعَيِّناً ليقضي.