الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ }

قوله تعالى: { فَلَوْلاۤ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ }: " إذ " منصوب بـ " تَضرَّعوا " فَصَلَ به بين حرف التحضيض وما دخل عليه، وهو جائز حتى في المفعول به، تقول: " لولا زيداً ضَرَبْتَ " وتقدَّم أن حرف التحضيض مع الماضي يكون معناه التوبيخ.

والتضرُّع: تفعُّل من الض‍‍َّراعة، وهي الذِّلَّة والهيئة المسبِّبة عن الانقياد إلى الطاعة يقال: ضَرَع يَضْرَعُ ضَراعة فهو ضارعٌ وضَرِع قال:
1927- لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومَةٍ   ومختبطٌ ممَّا تُطيح الطوائِحُ
وللسهولة والتذلُّل المفهومة من هذه المادة اشتقُّوا منها للثدي اسماً فقالوا له " ضَرْعاً "

قوله: { وَلَـٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } " لكنْ " هنا واقعة بين ضدين، وهما اللين والقسوة؛ وذلك أن قولَه " تَضَرَّعوا " مُشْعِرٌ باللين والسهولة، وكذلك إذا جَعَلْتَ الضراعةَ عبارة عن الإِيمان، والقسوة عبارة عن الكفر، وعَبَّرت عن السبب بالمسبِّب وعن المسبِّب بالسبب، ألا ترى أنك تقول: " آمَنَ قلبُه فتضرَّع، وقسا قلبه فكفر " وهذا أحسن من قول أبي البقاء: " ولكن " استدراك على المعنى، أي ما تضرَّعوا ولكن " يعني أن التحضيض في معنى النفي، وقد يترجَّح هذا بما قاله الزمخشري فإنه قال: " معناه نَفْيُ التضرُّعِ كأنه قيل: لم يتضرعوا إذ جاءهم بأْسُنا، ولكنه جاء بـ " لولا " ليفيد أنه لم يكنْ لهم عذرٌ في ترْك التضرُّع إلا قسوةُ قلوبِهم وإعجابُهم بأعمالهم التي زيَّنها الشيطان لهم ".

قوله: { وَزَيَّنَ لَهُمُ } هذه الجملة تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون استنافيةً، أخبر تعالى عنهم بذلك. " والثاني: وهو الظاهر -: أنها داخلةٌ في حَيِّز الاستدارك فهي نسقٌ على قوله: { قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } وهذا رأيُ الزمخشري فإنه قال: " لم يكن لهم عُذْرٌ في ترك التضرع إلا قسوةُ قلوبهم وإعجابُهم بأعمالهم " وقد تقدَّم ذلك. و " ما " في قوله: { مَا كَانُواّ } يحتمل أن تكونَ موصولةً اسمية أي: الذي كانوا يعملونه وأن تكونَ مصدرية، أي: زَيَّن لهم عملَهم، كقوله:زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ } [النمل: 4] ويَبْعُد جَعْلُها نكرةً موصوفة.