الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَـٰكِنَّ ٱلظَّٰلِمِينَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ يَجْحَدُونَ }

قوله تعالى: { قَدْ نَعْلَمُ }: " قد " هنا حرف تحقيق. وقال الزمخشري والتبريزي: " قد نعلم: بمعنى ربما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته نحو قوله:
1902-................   ............. قد يُهْلِكُ المالَ نائِلُهْ
قال الشيخ: " وهذا القول غير مشهور للنحاة، وإن قال به بعضهم مستدلاً بقوله:
1903- قد أَتْرُكُ القِرْن مُصْفرَّاً أناملُه   كأنَّ أثوابه مُجَّتْ بفِرصادِ
وقول الآخر:
أخي ثقةٍ لا تُتْلِفُ الخمرُ مالَه   ولكنه قد يُهْلك المالَ نائلُه
والذي يَظْهر أن التكثيرَ لا يُفْهَمُ من " قد " إنما فُهم من سياق الكلام؛ إذ التمدُّحُ بقتل قِرْن واحد غيرُ طائل، وعلى تقدير ذلك هو متعذِّر في الآية؛ لأنَّ علمه تعالى لا يقبل التكثير ". قلت: قد يُجاب عنه بأنَّ التكثير في متعلَّقات العلم لا في العلم، ثم قال: " وقولُه بمعنى " ربما " التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته المشهورُ أنَّ " رُبَّ " للتقليل لا للتكثير، وزيادةُ " ما " عليها لا يُخْرجها عن ذلك بل هي مهيِّئة لدخولِها على الفعل، و " ما " المهيِّئة لا تزيلُ الكلمة عن معناها الأصلي، كما لا تزيل " لعلَّ " عن الترجِّي ولا " كأنَّ " عن التشبيه ولا " ليت " عن التمني. وقال ابن مالك " " قد " كـ " ربما " في التقليل والصَّرف إلى معنى المضيّ، وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد نحو: { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ }وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ } [الصف: 5] وقوله:
1904- وقد تُدْرِكُ الإِنسانَ رحمةُ ربِّه   ولو كان تحت الأرض سبعين واديا
/ وقد تخلُو من التقليل وهي صارفةٌ لمعنى المضيِّ نحو قوله:قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ } [البقرة: 144].

وقال مكي: " قد " هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه. و " نعلم " بمعنى عَلِمْنا، وقد تقدَّم الكلام في هذا الحرف وأنها متردِّدةٌ بين الحرفيةِ والاسميةِ. وقال الشيخ هنا: " قد حرف توقع، إذا دخلت على مستقبلِ الزمان كان التوقُّعُ من المتكلم كقولك: " قد ينزل المطرُ شهرَ كذا " ، وإذا كان ماضياً أو فعل حال بمعنى المضيِّ كان التوقُّع عند السامع، وأمَّا المتكلمُ فهو موجِبُ ما أخبر به، وعَبَّر هنا بالمضارع إذا المرادُ الاتِّصافُ بالعلم واستمراره، ولم يَلْحَظْ فيه الزمانَ كقولهم: " هو يعطي ويمنع ".

و { إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ } سادٌّ مَسَدَّ المفعولين فإنها معلِّقة عن العمل، وكُسِرت لدخول اللام في خبرها. وتقدَّم الكلامُ في " لَيَحْزُنك " وأنه قرئ بفتح الياء وضمِّها من حَزَنه وأَحْزنه في آل عمران. " والذي يقولون " فاعلٌ وعائده محذوف، أي: الذي يقولونه مِنْ نسبتهم إلى ما لا يليق به، والضمير في " إنه " ضمير الشأن والحديث، والجملة بعده خبر مفسِّرةً له، ولا يجوزُ في هذا المضارعِ أن يُقَدَّر باسم فاعلٍ رافعٍ لفاعلٍ كما يُقَدَّرُ في قولك: " إنَّ زيداً يقوم أبوه " لئلا يلزمَ تفسير ضمير الشأن بمفرد، وقد تقدَّم أنَّه ممنوعٌ عند البصريين.

السابقالتالي
2