الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }

قوله تعالى: { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ }: في الضميرين - أعني هم وهاء " عنه " - أوجه، أحدها: أن المرفوع يعود على الكفار، والمجرور يعود على القرآن، وهو أيضاً الذي عاد عليه الضميرُ المنصوب من " يَفْقهوه " ، والمشارُ إليه بقولهم: " إنْ هذا " والثاني: أنَّ " هم " يعود على مَنْ تقدَّم ذِكْرُهم مِن الكفار، وفي " عنه " يعود على الرسول، وعلى هذا فقيه التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة، فإن قوله: { جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ } خطاب للرسول، فخرج من هذا الخطاب إلى الغَيْبة. وقيل: يعود على المرفوع على أبي طالب وأتباعه.

وفي قوله { يَنْهَوْنَ } و { وَيَنْأَوْنَ } تجنيس التصريف، وهو عبارة عن انفراد كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهَوْن انفردت بالهاء، ويَنْأَوْن بالهمزة، ومثله قوله تعالى:وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ } [الكهف: 104]بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ......وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } [غافر: 75] وقوله عليه السلام: " الخيلُ معقودٌ في نواصيها الخيرُ " وبعضهم يسمِّيه " تجنيس التحريف " وهو الفرق بين كلمتين بحرف، وأنشدوا:
1884- إنْ لم أشُنَّ على أبن حرب غارةً   لم تَخْلُ يوماً من نِهاب نفوسِ
وذكر غيره أن تجنيسَ التحريف هو أن يكون الشكل فرقاً بين كلمتين، وجعل منه " اللُّهى تفتح اللَّهى " وقد تقدم تحقيق ذلك. وقرأ الحسن البصري " ويَنَوْن " بإلقاء حركة الهمزة على النون وحذفها، وهو تخفيف قياسي. والنَّأيُ: البُعْد، قال:
1885- إذا غيَّر النأيُ المُحِبِّين لم يَزَلْ   رَسِيسُ الهوى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يبرحُ
وقال آخر:
1886- ألا حَبَّذا هندٌ وأرضٌ بها هندُ   وهندٌ أتى مِنْ دونها النأيُ البعدُ
عطف الشيء على نفسه للمغايرة اللفظية، يقال: نأى زيد يَنْأى نأياً، ويتعدَّى بالهمزة فيقال: أَنْأيْتُه، ولا يُعَدَّى بالتضعيف، وكذا كلُّ ما كان عينه همزة. ونقل الواحدي أنه يقال: نَأَيْتُه بمعنى نَأَيْتُ عنه، أنشد المبردِ:
1887- أعاذِلُ إن يُصْبحْ صَداي بقَفْرَةٍ   بعيداً نآني صاحبي وقريبي
أي: نأى عني. وحكى اللَّيث: " نَأَيْت الشيء " أي: أبعدته، وأنشد:
1888- إذا ما التَقَيْنا سالَ من عَبَراتنا   شآبيب يُنْآى سَيْلُها بالأصابع
فبناه للمفعول أي: يُنَحَّى ويُبْعَد. والحاصلُ أن هذه المادةَ تدلُّ على البُعْد، ومنه: أَتَنَأَّى أي: أفتعلُ النَّأيَ. والمَنْأى: الموضع البعيد، قال النابغة:
1889- فإنَّك كالموتِ الذي هو مُدْرِكي   وإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتأى عنك واسعُ
وتناءَى: تباعَدَ، ومنه النُّؤيُ للحُفَيْرة التي حول الخِباء لتُبْعِدَ عنه الماء. وقُرِئ: { وناءَ بجانبه } وهو مقلوبٌ مِنْ نأى، ويدل على ذلك أن الأصلَ هو المصدرُ وهو النَّأْيُ بتقديم الهمزة على حرف العلة.

قوله: { وَإِن يُهْلِكُونَ } " إنْ " نافيةٌ كالتي في قوله:إِنْ هَـٰذَآ } [الأنعام: 25]، و " أنفسهم " مفعولٌ، وهو استثناء مفرغ، ومفعول " يَشْعرون " محذوف: إمَّا اقتصاراً وإمَّا اختصاراً، أي: وما يشعرون أنهم يُهْلكون أنفسَهم.