الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيۤ ءَاذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ ءَايَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّىٰ إِذَا جَآءُوكَ يُجَٰدِلُونَكَ يَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَٰطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ }

قوله تعالى: { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ }: راعى لفظَ " مَنْ " فأفردَ، ولو راعى المعنى لَجَمَع كقوله في موضع آخر:وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ } [يونس: 42] وقوله: { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } إلى آخره، حُمِل على معناها.

قوله: { وَجَعَلْنَا } " جَعَلَ " هنا يحتمل أن يكونَ للتصيير فيتعدى لاثنين، أَوَّلُهما " أكنَّةً " ، والثاني الجار قبله، فيتعلَّق بمحذوف، أي: صَيَّرنا الأكِنَّةَ مستقرَّةً على قلوبهم. ويحتمل أن يكون بمعنى خلق فيتعدَّى لواحد، ويكون الجارُّ قبله حالاً فيتعلَّق بمحذوف، لأنه لو تأخر لوقع صفةً لـ " أَكِنَّة " ويُحتمل أن يكونَ بمعنى " ألقى " فتتعلق " على " بها كقولك: " ألقيت على زيدٍ كذا " وقوله:وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } [طه: 39].

وهذه الجملةُ تحتمل وجهين، أظهرهما: أنها مستأنفة سيقت للإِخبار بما تضمَّنَتْه من الخَتْم على قلوبهم وسمعهم. ويُحْتمل أن تكون في محلِّ نصب على الحال، والتقدير: مَنْ يستمع في حال كونه مجعولاً على قلبه كِنانٌ وفي أذنه وَقْرٌ، فعلى الأول يكون قد عطف جملةً فعلية على اسمية، وعلى الثاني تكون الواو للحال، و " قد " مضمرة، بعدها عند مَنْ يقدِّرها قبل الماضي الواقع حالاً.

والأَكِنَّة: جمع كِنان وهو الوعاء الجامع. قال:
1883- إذا ما انْتَضْوها في الوغَى مِنْ أكنَّةٍ   حَسِبْتَ بروقَ الغيث تأتي غيومُها
وقال بعضهم: " الكِنُّ - بالكسر - ما يُحْفَظُ فيه الشي، وبالفتح المصدر. يقال: كنَّنْتُه كِنَّاً أي: جعلتُه في كِنّ، وجُمِعَ على أَكْنان قال تعالى:مِّنَ ٱلْجِبَالِ أَكْنَاناً } [النحل: 81]. والكِنانُ: الغِطاء الساتر، والفعل من هذه المادة يُستعمل ثلاثياً ورباعياً، يقال: كَنَنْتُ الشيء وأكنَنْتُه كِنَّاً وأكناناً، إلا أنَّ الراغبَ فرَّقَ بين فَعَل وأَفْعل فقال: " وخُصَّ كَنَنْتُ بما يَسْتُرُ من بيتٍ أو ثوب أو غير ذلك من الأجسام، قال تعالى:كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } [الصافات: 49] وأكنَنْتُ بما يُسْتَرُ في النفس، قال تعالى:أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ } [البقرة: 235]. قلت: ويَشْهد لما قال قوله أيضاً:إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } [الواقعة: 77ـ78] وقوله تعالى:مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ } [القصص: 69]. وكِنانُ يُجْمع على أكِنَّة في القلة والكثرة لتضعيفه، وذلك أن فَعالاً وفِعالاً بفتح الفاء وكسرها يُجْمع في القلة على أَفْعِله كأَحْمِرَة واقْذِلة وفي الكثرة على فُعُل كحُمُر وقُذُل، إلا أن يكونَ مضاعفاً كـ " بَتَات " و " كِنان " أو معتلَّ اللام كخِباء وقَباء فيُلْتَزَمَ جَمْعُه على أَفْعِلة، ولا يجوز على فُعُل إلا في قليلٍ من الكلام كقولهم عُنُن وحُجُج في جمع عِنان وحِجاج.

قوله: { أَن يَفْقَهُوهُ } في محلِّ نصب على المفعول من أجله، وفيه تأويلان سَبَقا، أحدهما: كراهةَ أن يفقهوه، وهو رأيُ البصريين، والثاني: حَذْفُ " لا " أي: أن لا يفقهوه، وهو رأيُ الكوفيين.

السابقالتالي
2 3