الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قُل لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ قُل للَّهِ كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }

قوله تعالى: { لِّمَن مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ }: " لمَنْ " خبرٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديم؛ لاشتماله على ما له صدرُ الكلام فإنَّ " مَنْ " استفهامية والمبتدأ " ما " وهي بمعنى الذي، والمعنى: لمن استقر الذي في السماوات. وقوله: { قُل للَّهِ } قيل: إنما أمَرَه أن يجيب وإن كان المقصود أن يُجيب غيرُه؛ ليكون أولَ مَنْ بادر الاعتراف بذلك، وقيل: لمَّا سألهم كأنهم قالوا: لمن هو؟ فقال الله: قل لله، ذكره الجرجاني. فعلى هذا قوله: " قل لله " جواب للسؤال المضمر الصادر من جهة الكفار، وهذا بعيدٌ، لأنهم لم يكونوا يشكُّون في أنه لله، وإنما هذا سؤال تبكيت وتوبيخ، ولو أجابوا لم يَسَعْهم أن يُجيبوا إلا بذلك. وقوله " لله " خبر مبتدأ محذوف، أي هو أو ذلك لله.

قوله: { كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ } أي قضى وأوجب إيجابَ تَفَضُّلٍ لا أنه مستحق عليه تعالى. وقيل: معناه القسم، وعلى هذا فقوله: { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } جوابُه؛ لِما تضمن من معنى القسم، وعلى هذا فلا توقُّفَ على قوله " الرحمة " قال الزجاج: " إن الجملة من قوله: { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } في محل النصب على أنها بدل من " الرحمة " ، لأن فَسَّر قوله { لَيَجْمَعَنَّكُمْ } بأنه أمهلكم وأمدَّ لكم في العمر والرزق مع كفركم، فهو تفسير للرحمة. وقد ذكر الفراء هذين الوجهين: أعني أن الجملة تَمَّتْ عند قوله " الرحمة " أو أن " ليجمعنكم " بدلٌ منها فقال: " إن شئت جعلت الرحمة غايةَ الكلام ثم استأنفت بعدها " ليجمعنكم " وإن شِئْتَ جَعَلْتَها في موضع نصب كما قال:كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ } [الأنعام: 54]. قلت: واستشهاده بهذه الآيةِ حسن جداً.

ورَدَّ ابن عطية هذا بأنه يلزم دخولُ نونِ التوكيد في الإِيجاب قال: " وإنما تدخل على الأمر والنهي وجواب القسم ". ورَدَّ الشيخ حصر ابن عطية وردَ نون التوكيد فيما ذكر. وهو صحيح، وردَّ كونَ " ليجمعنَّكم " بدلاً من الرحمة بوجه آخر، وهو أنَّ " ليجمعنَّكم " جوابُ قسمٍ، وجملة الجواب وحدها لا موضع لها من الإِعراب، إنما يُحْكَمُ على موضع جملتي القسم والجواب بمحلِّ الإِعراب ". قلت: وقد خلط مكي المذهبين وجعلهما مذهباً واحداً فقال: " ليجمعنَّكم " في موضع نصبٍ على البدل من " الرحمة " واللام لام القسم. فهي جواب " كتب " لأنه بمعنى: أوجب ذلك على نفسه، ففيه معنى القسم، وقد يظهر جوابٌ عما أورده الشيخ على غير مكي، وذلك أنهم جعلوا " ليجمعنَّكم " بدلاً من " الرحمة " ، يعني هي وقسيمها المحذوف، واستغنوا عن ذكر القسم بها؛ لأنها مذكورةٌ في اللفظ، فكأنهم قالوا: وجملة القسم في محل نصب بدلاً من الرحمة، وكما يقولون جملة القسم ويستغنون به عن ذِكْرِهم جملةَ الجواب كذلك يستغنون بالجواب عن ذكر القسم لاسيما وهو غير مذكور.

السابقالتالي
2 3