الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ }

قوله تعالى: { هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ }: في " أعلم " هذه قولان أحدهما: أنها ليست للتفضيل بل بمعنى اسم فاعل في قوته كأنه قيل: إن ربك هو يعلم. قال الواحدي: " ولا يجوز ذلك لأنه لا يطابِقُ { وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ }. والثاني: أنها على بابها من التفضيل. ثم اختلف هؤلاء في محلِّ " مَنْ ": فقال بعض البصريين: هو جرٌّ بحرفٍ مقدَّرٌ حُذِف وبقي عملُه لقوة الدلالة عليه بقوله { وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } وهذا ليس بشيء لأنه لا يُحْذَفُ الجارُّ ويبقى أثرُه إلا في مواضعَ تقدَّمَ التنبيهُ عليها، وما وَرَدَ بخلافها فضرورةٌ كقوله:
2044ـ...............   أشارت كليبٍ بالأكف الأصابعُ
[وقوله]:
2045ـ...................   حتى تبذَّخ فارتقى الأعلامِ
الثاني: أنها في محل نصب على إسقاط الخافض كقوله:
2046ـ تمرُّون الديار ولم تعوجوا   ...................
قاله أبو الفتح. وهو مردود من وجهين: أحدهما: أن ذلك لا يطَّرد. والثاني: أن أَفْعلَ التفضيل لا تَنْصِبُ بنفسها لضعفها. الثالث: ـ وهو قول الكوفيين ـ أنه نُصِب بنفس أفعل فإنها عندهم تعمل عمل الفعل. الرابع: أنها منصوبةٌ بفعل مقدَّر يدل عليه أفعل، قاله الفارسي، وعليه خَرَّج قول الشاعر:
2047ـ أكَرَّ وأَحْمَى للحقيقةِ منهمُ   وأَضْرَبَ منا بالسيوف القوانِسا
فالقوانِس نُصِبَ بإضمار فعلٍ، أي: يَضْرِبُ القوانس، لأن أفعل ضعيفة كما تقرر. الخامس: أنها مرفوعةُ المحلِّ بالابتداء، و " يضلُّ " خبره، والجملة مُعَلِّقة لأفعل التفضيل فهي في محل نصبٍ بها، كأنه قيل: أعلمُ أيُّ الناس يضلُّ كقوله:لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ } [الكهف: 12] وهذا رأي الكسائي والزجاج والمبرد ومكي. إلا أن الشيخ رَدّ هذا بأن التعليق فرع ثبوت العمل في المفعول به/ وأفعل لا يعمل فيه فلا يُعَلَّق ". والراجح من هذه الأقوال نَصْبُها بمضمر وهو قول الفارسي، وقواعد البصريين موافقة له، ولا يجوز أن تكون " مَنْ " في محل جر بإضافة أفعل إليها؛ لئلا يلزم محذور عظيم: وذلك أن أفعل التفضيل لا تُضاف إلا إلى جنسها فإذا قلت: " زيد أعلمُ الضالين " لزم أن يكون " زيد " بعضَ الضالين أي متَّصِفٌ بالضلال، فهذا الوجهُ مستحيل في هذه الآية الكريمة. هذا عند مَنْ قرأ " يَضِلُّ " بفتح حرف المضارعة.

أمَّا مَنْ قرأ بضمِّه: " يُضِلّ " ـ وهو الحسن وأحمد بن أبي سريج ـ فقال أبو البقاء: " يجوز أن تكون " مَنْ " في موضع جر بإضافة " أفعل " إليها. قال: " إمَّا على معنى هو أعلم المضلين أي: مَنْ يجد الضلال، وهو مَنْ أضللته أي: وجدته ضالاًّ مثل أَحْمَدْتُه أي: وجدتُه محموداً أو بمعنى أنه يضلُّ عن الهدى ". قلت: ولا حاجة إلى ارتكاب مثل هذا في مثل هذه الأماكن الحرجة، وكان قد عَبَّر قبل ذلك بعبارات استعظمْتُ النطق بها فضربت عنها إلى أمثلةٍ من قولي.

السابقالتالي
2