الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَٰتِ وَٱلنُّورَ ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }

قوله تعالى: { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ }: " جعل " هنا تتعدى لمفعول واحد لأنها بمعنى خلق، هكذا عبارة النحويين، ظاهرها أنهما مترادفان. إلا أن الزمخشري فرَّق بينهما فقال: " الفرق بين الخَلْق والجَعْل أنَّ الخَلْق فيه معنى التقدير و[في] الجعل معنى التصيير كإنشاء شيء من شيء، أو تصييرِ شيءٍ شيئاً، أو نقلِه من كان إلى مكان، ومن ذلك:وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [الأعراف: 189] { وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَاتِ وَٱلنُّورَ } لأنَّ الظلمات من الأجرام المتكاثفة والنور من النار " انتهى. وقال الطبري: " جَعَل " هنا هي التي تتصرف في طَرَف الكلام كما تقول: جعلت أفعل كذا، فكأنه: " وجعل إظلامَها وإنارتَها " وهذا لا يشبه كلام أهل اللسان. ولكونها عند أبي القاسم ليست بمعنى " خلق " فسَّرها هنا بمعنى أحدث وأنشأ. وكذا الراغب جعلها بمعنى أوجد.

ثم إن الشيخ اعترض عليه هنا لمَّا استطرد، وذكر أنها تكون بمعنى صَيَّر، ومثَّل بقوله:وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً } [الزخرف: 19] فقال: " وما ذَكَره من أنَّ " جَعَل " بمعنى صَيَّر في قوله: { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَة } لا يَصِحُّ لأنهم لا يُصَيِّرهم إناثاً، وإنما ذكر بعض النحويين أنها هنا بمعنى سمَّى " قلت: ليس المرادُ بالتصيير التصييرَ بالفعل، بل المراد التصيير بالقول، وقد نصَّ الزمخشري على ذلك، وسيأتي لهذا - إن شاء الله - مزيدُ بيان في موضعه. وقد ظهر الفرق بين تخصيص السماوات والأرض بالخَلْق والظلمات والنور بالجَعْل بما ذكره الزمخشري. وإنما وَحَّد النور وجَمَع الظلمات لأن النورَ مِنْ جنس واحد وهو النار، والظلمات كثيرة، فإنَّ ما من جِرْمٍ إلا وله ظلُّ، وظلُّه هو الظلمة، وحَسَّن هذا أيضاً أن الصلةَ التي قبلها تقدَّم فيها جَمْعٌ ثم مفردٌ فعطفْتَ هذه عليها كذلك وقد تقدَّم في البقرة الحكمة في جمع السماوات وإفراد الأرض. وقُدِّمت " الظلمات " في الذِّكر لأنه مُوافِقٌ في الوجود؛ إذ الظلمة قبل النور عند الجمهور.

قوله: { ثْمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } " ثم " هذه ليست للترتيب الزماني، وإنما هي للتراخي بين الرتبتين، والمراد اسبتعادُ أن يَعْدِلوا به غيرَه مع ما أوضح من الدلالات. وهذه عطفٌ: إمَّا على قوله " الحمد لله " وإما على قوله: " خلق السماوات " قال الزمخشري: " فإن قلت: فما معنى " ثم "؟ قلت: استبعاد أن يَمْتَرُوا فيه بعد ما ثبت أنه محييهم وميتهم وباعثهم " وقال ابن عطية: " ثم " دالة على ما قُبْح فِعْل الذين كفروا؛ فإنَّ خَلْقه للسماوات والأرض وغيرهما قد تَقَّرر، وآياتِه قد سَطَعَتْ، وإنعامه بذلك قد تبيَّن، ثم مع هذا كله يَعْدِلون به غيره ".

السابقالتالي
2