الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

قوله تعالى: { جَعَلَ ٱللَّهُ }: فيها وجهان، أحدهما: أنها بمعنى صَيَّر فتتعدَّى لاثنين، أولهما " الكعبة " والثاني " قياماً " والثاني: أن تكون بمعنى خلق فتتعدى لواحد، وهو " الكعبة " و " قياماً " نصبٌ على الحال. وقال بعضهم: إنَّ " جعل " هنا بمعنى " بَيَّن " و " حَكَم " ، وهذا ينبغي أن يُحْمل على تفسير المعنى لا تفسير اللغة؛ إذ لم ينقل أهلُ العربية أنها تكونُ بمعنى بَيَّن ولا حَكَم، ولكن يلزم من الجَعْلِ البيانُ، وأمَّا " البيتَ " فانتصابُه على أحد وجهين: إما البدلِ وإما عطفِ البيان، وفائدةُ ذلك أن بعض الجاهلية - وهم خثعم- سَمَّوْا بيتاً الكعبةَ اليمانية فجيء بهذا البدلِ أو البيانِ تبييناً له من غيره. وقال الزمخشري: " البيتَ الحرامَ " عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح كما تجيء الصفةُ كذلك " واعترض عليه الشيخ بأن شرطَ البيانِ الجمودُ، والجمودُ لا يُشْعر بمدح، وإنما يُشْعر به المشتقُّ، ثم قال: " إلا أَنْ يريدَ أنه لَمَّا وُصِف البيت بالحرام اقتضى المجموعُ ذلك فيمكنُ ".

والكعبة لغةً: كلُّ بيت مربع، وسُمِّيَتْ الكعبةُ كعبةً لذلك، وأصل اشتقاق ذلك من الكَعْب الذي هو أحد أعضاء الآدمي. قال الراغب: " كَعْبُ الرجل " [العظم] الذي عند مُلْتقى الساق والقدم، والكعبة كلُّ بيتٍ على هيئتِها في التربيع، وبها سُمِّيَتِ الكعبة، وذُو الكَعَبات: بيتٌ كان في الجاهلية لبني ربيعة، وامرأة كاعِب: تكعَّب ثدياها " وقد تقدَّم القولُ في هذه المادةِ أولَ السورة.

والجمهور قرؤوا هنا: " قياماً " بألفٍ بعد الياء، وابن عامر: " قِيَماً " دون ألف بزنة " عِنَب " ، والقيام هنا يحتمل أن يكون مصدراً لـ " قام - يقوم " والمعنى: أنَّ اللَّهَ جعل الكعبةَ سبباً لقيامِ الناس إليها، أي: لزيارتِها والحجِّ إليها، أو لأنَّها يَصْلُح عندها أمرُ دينهم ودنياهم، فيها يَقُومون، ويجوزُ أَنْ يكونَ القيامُ بمعنى القِوام فَقُلبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلها، كذا قالَ الواحدي، وفيه نظرٌ إذ لا موجبَ لإِعلاله إذ هو كـ " السِّواك " فينبغي أن يقال: إن القِيام والقِوام بمعنى واحد، قال:
1812- قِوامُ دنيا وقِوامُ دينِ   
فأمَّا إذا دخَلَها تاءُ التأنيث لَزِمَتِ الياءُ نحو: " القيامة " وأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فاستشكلها بعضُهم بأنه لا يَخْلُو: إمَّا أَنْ يكونَ مصدراً على فِعَل، وإما أن يكونَ على فِعال، فإنْ كان الأول فينبغي أن تصِحُّ الواو كـ " حِوَل " و " عَوَر " وإن كان الثاني فالقصر لا يأتي إلا في شعر. وقرأ الجحدري: " قَيِّماً " بتشديد الياء وهو اسمٌ دالٌّ على ثبوت الصفة، وقد تقدَّم تحقيقُه أول النساء.

السابقالتالي
2