الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ }

قوله تعالى: { وَأَنْتُمْ حُرُمٌ }: في محل نصب على الحال من فاعل " تقتلوا " ، و " حُرُمٌ " جمع حَرام، وحَرام يكون للمُحْرِم وإنْ كان في الحِلِّ ولِمَنْ في الحَرَم وإنْ كان حلالاً، وهما سيَّان في النهي عن قتل الصيد، وقد تقدم الكلامُ على هذه اللفظة. قوله: { منكم } في محلِّ نصب على الحال من فاعل " قَتَله " أي: كائناً منكم. وقيل: " مِنْ " للبيان وليس بشيء، لأنَّ كلَّ مَنْ قَتَل صيداً حكمُه كذلك. فإن قلت: هذا واردٌ أيضاً على جَعْلِه حالاً. قلتُ: لم يُقْصَدْ لذلك مفهومُ حتى إنه لو قتَله غيرُكم لم يكن عليه جزاءٌ، لأنه قصد بالخطابِ معنىً آخرَ وهو المبالغةُ في النهي عن قَتْلِ الصيد.

قوله: { مُّتَعَمِّداً } حالٌ أيضاً من فاعل " قَتَلَه " فعلى رَأْي مَنْ يجوِّزُ تعدُّدَ الحال يُجيز ذلك هنا، ومَنْ مَنَعَ يقول: إنَّ " منكم " للبيانِ حتى لا تتعدَّد الحالُ، و " مَنْ " يُجَوِّزُ أَنْ تكونَ شرطيةً وهو الظاهرُ، وموصولةً، والفاءُ لشبهِها بالشرطيةِ، ولا حاجةَ إليه وإنْ كانوا فعلوه في مواضع. قوله: " فجزاء " الفاءُ جوابُ الشرطِ أو زائدةٌ لشبه المبتدأ بالشرط، فعلى الأول الجملةُ بعدها في محلِّ جزمٍ، وعلى الثاني في محلِّ رفعٍ، وما بعد " مَنْ " على الأولِ في محلِّ جزمٍ لكونِه شرطاً، وعلى الثاني لا محلَّ له لكونه صلةً. وقرأ أهلُ الكوفة: " فجزاءٌ مثلُ " بتنوين جزاء ورفعه ورفع " مثل " ، وباقي السبعة برفعه مضافاً إلى " مثل " ، ومحمد بن مقاتل بتنوين " جزاءً " ونصبِه ونصب " مثلَ " والسُلمي برفع " جزاء " منوناً ونصبِ " مثل " ، وقرأ عبد الله: { فجزاؤُه } برفع " جزاء " مضافاً لضمير " مثل " رفعاً.

فأمَّا قراءةُ الكوفيين فلأنَّ " مثل " صفةٌ لـ " جزاء " أي: فعليه جزاءٌ موصوفٌ بكونه " مثلَ ما قتله " أي مماثِلَه. وجَوَّز مكي وأبو البقاء وغيرُهما أَنْ يرتفعَ " مثل " على البدلِ، وذكر الزجاج وجهاً غريباً وهو أن يرتفعَ " مثل " على أنه خبرٌ لـ " جزاء " ويكونُ " جزاء " مبتدأً قال: " والتقديرُ: فجزاءُ ذلك الفعلِ مثلُ ما قتل " قلت: ويؤيد هذا الوجهَ / قراءةُ عبد الله: " فجزاؤُه مثلُ " إلا أن الأحسنَ أن يقدِّر ذلك المحذوفُ ضميراً يعودُ على المقتول لا أَنْ يُقَدِّره: " فجزاءُ ذلك الفعل " و " مثل " بمعنى مماثل قاله جماعةٌ: الزمخشري وغيره، وهو معنى اللفظِ، فإنِّها في قوةِ اسمِ فاعل، إلاَّ أنَّ مكّياً تَوَهَّم أنَّ " مِثْلاً " قد يكون بمعنى غير مماثل فإنه قال: " ومثل " في هذه القراءة - يعني قراءة الكوفيين - بمعنى مُماثِل، والتقديرُ: فجزاءٌ مماثلٌ لِما قَتَل يعني في القيمةِ أو في الخِلْقة على اختلافِ العلماء، ولو قَدَّرْتَ مِثْلاً على لفظه لصار المعنى: فعليه جزاءٌ مثلُ المقتولِ من الصيد، وإنما يلزمه جزاء المقتول بعينِه لا جزاءٌ مثلُه، لأنه إذا وَدَى جزاءً مثلَ المقتول صار إنما وَدَى جزاءَ ما لم يُقْتَل؛ لأنَّ مثلَ المقتول لم يَقْتُلْه، فصَحَّ أن المعنى: فعليه جزاءٌ مماثِلٌ للمقتول، ولذلك بَعُدَتِ القراءةُ بالإِضافة عند جماعة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7