الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }

قوله تعالى: { رِجْسٌ }: خبرٌ عن هذه الأشياء المتقدمة فيقال: " كيف أخبر عن جمع بمفرد؟ فأجاب الزمخشري بأنه على حَذْف مضاف اي: إنما شأنُ الخمرِ، وكذا وكذا، ذكر ذلك عند تعرُّضِه للضميرِ في " فاجتنبوه " كما سيأتي، وكذا قَدَّره أبو البقاء فقال: " لأنَّ التقديرَ: إنما عَمَلُ هذه الأشياءِ " قال الشيخ بعد حكايتِه كلامَ الزمخشري: " ولا حاجة إلى هذا، بل الحكمُ على هذه الأربعةِ أنفسِها أنَّها رِجْسٌ أبلغُ من تقدير هذا المضاف كقوله:إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [التوبة: 28]. وهو كلامٌ حسن، وأجاب أبو البقاء أيضاً بأنه يجوزُ أَنْ يكونَ " رجس " خبراً عن " الخمر " وحُذِفَ خبرُ المعطوفاتِ لدلالةِ خبرِ الأولِ عليها ". قلت: وعلى هذا فيجوزُ أن يكونَ خبراً عن الآخِر وحُذِفَ خبرُ ما قبلَه لدلالةِ خبرِ ما بعده عليه؛ لأنَّ لنا في نحو قولِه تعالى:وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } [التوبة: 62] هذين التقديرين، وقد تقدَّم تحقيقُهما غيرَ مرةٍ.

والأنصابُ جمع " نَصَب " ، وقد تقدم ذلك أول السورة والأزلام تقدمت أيضاً، والرِّجْسُ قال الراغب: " هو الشيء القَذِرُ، رجل رِجْس، ورجالٌ أَرْجاس " ثم قال: " وقيل: رِجْس ورِجْز للصوت الشديد، يقال: بعير رَجَّاس: شديد الهدير، وغمام راجِس ورجَّاس: شديد الرعد " وقال الزجاج: " وهو اسمُ لك ما استُقذر من عمل قبيح، يقال: رَجِس ورَجَس بكسر الجيم وفتحها يَرْجُسُ رِجْساُ إذا عمل عملاً قبيحاً، وأصلح من الرِّجْس بفتح الراء وهو شدة صوت الرعد، قال:
1809- وكلُّ رَجَّاسٍ يسوقُ الرَّجْسا   
وفَرَّق ابن دريد بين الرِّجْس والرِّجْز والرِّكْس، فجعل الرِّجْسَ: الشر، والرِّجْز: العذاب، والرِّكْس: العَذِرة والنَّتْن، ثم قال: " والرِّجْسُ يقال للاثنين " ، فتحصَّل من هذا أنه اسمٌ للشيءِ القَذِرِ المنتن أو أنه في الأصل مصدرٌ.

وقوله: { مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ } في محلِّ رفعٍ لأنه صفةٌ لـ " رجس " والهاء في " فاجتَنُبِوه " تعودُ على الرجس أي: فاجتنبوا الرجسَ الذي أخبر به عَمَّا تقدَّم من الخمر وما بعدها. وقال أبو البقاء: " إنها تعود على الفعل " يعني الذي قَدَّره مضافاً إلى الخمر وما بعدها، وإلى ذلك نحا الزمخشري أيضاً، قال: " فإنْ قلت: إلامَ يَرْجِعُ الضمير في قوله: " فاجتنبوه؟ قلت: إلى المضافِ المحذوف، أو تعاطِيهما أو ما أشبه ذلك، ولذلك قال: { رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ } وقد تقدَّم أن الأحسن أن هذه الأشياء جُعِلَتْ نفسَ الرجس مبالغة.