الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَٱحْفَظُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

قوله تعالى: { لاَ يُؤَاخِذُكُمُ }: إلى آخره، تقدم إعرابُ ذلك في سورة البقرة واشتقاقُ المفردات. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: " عَقَدْتُمْ " بتخفيف القاف دون ألف بعد العين، وابن ذكوان عن ابن عامر: " عاقدتم " بزنة فاعلتم، والباقون: " عَقَّدتم " بتشديد القاف. فأمَّا التخفيفُ فهو الأصل، وأمَّاالتشديدُ فيحتمل أوجهاً، أحدها: أنه للتكثيرِ لأنَّ المخاطبَ به جماعةٌ. والثاني: أنه بمعنى المجردِ فيوافِقُ القراءةَ الأولى، ونحوه: قَدَّر وقَدَر. والثالث: أنه يَدُلُّ على توكيد اليمين نحو: " واللهِ الذي لا إله إلا هو ". والرابع: أنه يدل على تأكيد العزم بالالتزام. الخامس: أنه عوضٌ من الألف في القراءة الأخرى، ولا أدري ما معناه، ولا يجوز أن يكونَ لتكرير اليمين فإنَّ الكفارةَ تَجِبُ ولو بمرةٍ واحدةٍ.

وقد تَجَرَّأ أبو عبيد على هذه القراءةِ وزيَّفَها فقال: " التشديد للتكرير [مرةً] من بعد مرة، ولست آمنُ أن توجِبَ هذه القراءةُ سقوطَ الكفارةِ في اليمين الواحدة لأنها لم تكرَّرْ " وقد وَهَّموه الناسُ في ذلك، وذكروا تلك المعاني المتقدمة، فَسَلِمَتِ القراءةُ تلاوةً ومعنى ولله الحمدُ.

وأمَّا " عاقدت " فيُحتملُ أن يكونَ بمعنى المجردِ نحو: " جاوزت الشيء وجُزْتُه " وقال الفارسي: " عاقَدْتم " يحتمل أمرين، أحدهما: أن يكونَ بمعنى فَعَل، كطارقت النَّعْل وعاقبتُ اللص، والآخر: أن يُراد به فاعَلْتُ التي تقتضي فاعلين، كأن المعنى: بما عاقدتم عليه الأيمانَ، عَدَّاه بـ " على " لَمَّا كان بمعنى عاهد، قال:بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ ٱللَّهَ } [الفتح: 10] كما عَدَّى:نَادَيْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاَةِ } [المائدة: 58] بـ " إلى " وبابُها أن تقول: ناديت زيداً [نحو:]وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ ٱلطُّورِ } [مريم: 52] لَمَّا كانت بمعنى دَعَوْتُ إلى كذا، قال:مِّمَّن دَعَآ إِلَى ٱللَّهِ } [فصلت: 33] ثم اتُّسِع فحُذِف الجارُّ ونُقِل الفعل إلى المفعول، ثم حُذِف الضمير العائد من الصلة إلى الموصول إذ صار: { بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَانَ } كما حُذِف من قوله:فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } [الحجر: 94] قلت: يريد - رحمه الله - أن يبيِّن معنى المفاعلة فأتى بهذه النظائر للتضمين ولحذفِ العائدِ على التدريج، والمعنى: بما عاقَدْتُم عليه الأيمان وعاقَدَتُم الأيمان عليه، فَنَسَب المعاقدةَ إلى الأيمان مجازاً. ولقائل أن يقول: قد لانحتاجُ إلى عائد حتى نحتاج إلى هذا التكلُّفِ الكثير، وذلك بأن نجعلَ " ما " مصدريةً والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه: بما عاقدتم غيرَكم الأيمانَ، أي: بمعاقدتكم غيرَكم الأيمانَ، ونخلص من مجازٍ آخر وهو نسبةُ المعاقدةِ إلى الأيمان، فإنَّ في هذا الوجه نسبةَ المعاقدة للغير وهي نسبةٌ حقيقة، وقد نَصَّ على ذلك - أعني هذا الوجه - جماعةٌ.

وقد تعقَّب الشيخُ على أبي علي كلامَه / فقال: " قوله: إنه مثل " طارَقْتُ النعل " و " عاقبت اللص " ليس مثلَه، لأنك لا تقول: طَرَقْتُ ولا عَقَبْتُ، وتقول: عاقَدْت اليمين وعَقَدْتُها " وهذا غيرُ لازم لأبي علي لأنَّ مرادَه أنه مثلُه من حيث إنَّ المفاعلةَ بمعنى أن المشاركة من اثنين منتفيةٌ عنه كانتفائها من عاقَبْتُ وطارَقْتُ، أمَّا كونُه يقال فيه أيضاً كذا فلا يَضُرُّه ذلك في التشبيه.

السابقالتالي
2 3 4 5