الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ }

وقوله تعالى: { وَإِذَا سَمِعُواْ } " إذا " شرطيةٌ جوابُها " تَرى " وهو العاملُ فيها، وهذه الجملةُ الشرطيةُ فيها وجهان، أظهرُهما: أنَّ محلِّها الرفعُ نسقاً على خبر " أنَّهم " الثانيةِ، وهو " لا يستكبرون " أي: ذلك بأنَّ منهم كذا وأنهم غيرُ مستكبرين وأنهم إذا سمعوا، فالواو عَطَفَتْ مفرداً على مثله. والثاني: أنَّ الجملةَ استئنافية أي: أنه تعالى أَخْبر عنهم بذلك. والضميرُ في " سمعوا " ظاهرُه أَنْ يعودَ على النصارى المتقدِّمين لعمومِهم، وقيل: إنما يعودُ لبعضِهم وهم مَنْ جاء مِن الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عطية: " لأنَّ كلَّ النصارى ليسوا كذلك ".

و " ما " في " ما أُنْزل " تحتمل الموصولةَ والنكرةَ الموصوفةَ، و " ترى " بصَريةٌ، فيكون قولُه " تَفيض من الدمع " جملةً في محلِّ نصب على الحال. وقُرئ شاذاً " تُرى " بالبناء للمفعول، " أعينُهم " / رفعاً، وأسند الفيضَ إلى الأعينِ مبالغةً، وإن كان القائضُ إنما هو دمعُها لا هي، كقول امرئ القيس:
1802- ففاضَتْ دموعُ العينِ مني صَبابةً   على النَّحْرِ حتى بَلَّ دَمْعِيَ مَحْمِلي
والمرادُ المبالغةُ في وصفِهم بالبكاءِ، أو يكونُ المعنى أنَّ أعينَهم تمتلئ حتى تفيضَ، لأنَّ الفيضَ ناشىءٌ عن الامتلاءِ كقوله:
1803- قوارِصُ تأتيني وتَحْتَقِرُونها   وقد يَمْلأَ الماءُ الإِناءَ فَيَفْعُمُ
وإلى هذين المعنيين نحا أبو القاسم، فإنه قال: " فإنْ قلت: " ما معنى " تَفيض من الدمع "؟ قلت: معناه تَمْتَلِئ من الدمع حتى تفيض، لأنَّ الفيض أَنْ يمتلئَ الإِناءُ حتى يَطْلُعَ ما فيه من جوانبه، فوضع الفيضَ الذي هو من الامتلاءِ موضعَ الامتلاء، وهو من إقامةِ المسبب مُقام السببِ، أو قَصَدْتَ المبالغةَ في وصفِهم بالبكاء، فجَعَلْتَ أعينهم كأنها تفيض بأنفسها، أي: تسيل من الدمع من أجلِ البكاء من قولك: " دَمَعَتْ عينُه دمعاً ".

و " من الدمع " فيه أربعةُ أوجه، أحدُها: أنه متعلِّقٌ بـ " تَفيض " ، ويكون معنى " مِنْ " ابتداءَ الغاية، والمعنى: تَفِيضُ من كثرة الدمع. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الفاعلِ في " تفيضُ " قالهما أبو البقاء، وقَدَّر الحالَ بقولك: " مملوءةً من الدمع " وفيه نظر، لأنه كونٌ مقيدٌ، ولا يجوزُ ذلك، فبقي ان يُقَدَّرَ كوناً مطلقاً أي: تفيض كائنً من الدمع، وليس المعنى على ذلك، فالقولُ بالحاليةِ لا ينبغي. فإن قيل: هل يجوزُ عند الكوفيين أن يكونَ " من الدمع " تمييزاً، لأنهم لا يَشْترطون تنكيرَ التمييز، والأصل: تفيض دمعاً، كقولك: " تَفَقَّأ زيدٌ شحماً " فهو من المتصبِ عن تمام الكلام؟ فالجوابُ أن ذلك لا يجوزُ، لأنَّ التمييز إذا كان منقولاً من الفاعلية امتنع دخولُ " مِنْ " عليه، وإن كانت مقدرةً معه، فلا يجوز: " تَفَقَّأ زيدٌ من شحم " وهذا - كما رأيتَ - مجرورٌ بـ " من " فامتنع أن يكونَ تمييزاً، إلا أن ابا القاسم في سورة براءة جعله تمييزاً في قوله تعالى:

السابقالتالي
2 3