الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ }

قوله تعالى: { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ }: قد تقدَّم الكلام على " كلما " مشبعاً فَأَغْنى عن إعادتِه. وقال الزمخشري: " كلما جاءهم رسول " جملةٌ شرطيةٌ وقعت صفةً لـ " رسلاً " والراجعُ محذوفٌ أي: رسول منهم " ، ثم قال: " فإنْ قلت: أين جوابُ الشرط، فإنَّ قولَه: { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } ناب عن الجواب، لأنَّ الرسولَ الواحدَ لا يكون فريقين، ولأنه لا يحسُن أن تقولَ: " إن أكرمت أخي أخاك أكرمت "؟ قلت: هو محذوفٌ يَدُلُّ عليه قوله: { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } كأنه قيل: كلما جاءَهم رسولٌ ناصَبُوه، وقوله: { فَرِيقاً كَذَّبُواْ } جواب مستأنف لقائلٍ يقول: كيف فَعَلُوا برسلهم؟ " قال الشيخ: " وليس " كلما " شرطاً، بل " كلَّ " منصوبٌ على الظرف و " ما " مصدرية ظرفية، ولم يجزم العرب بـ " كلما " أصلاً، ومع تسليم أن " كلما " شرط فلا يمتنع لِما ذكر، أما الأول فلأنَّ المرادَ بـ " رسول " الجنسُ لا واحدٌ بعينه، فيصح انقسامُه إلى فريقين نحو: " لا أصحبك ما طَلَعَ نجمٌ " أي: جنس النجوم، وأما الثاني فيعني أنه لا يجوزُ تقديمُ معمولِ جوابِ الشرط عليه، وهذا الذي منعه إنما منعه الفراءُ وحدَه، وأما غيرُه فأجاز ذلك، وهذا مع تسليم أنَّ " كلما " شرط، وأمَّا إذا مشينا على أنَّها ظرفيةٌ فلا حاجة إلى الاعتذارِ عن ذلك، ولا يمتنعُ تقديمُ معمولِ الفعلِ العاملِ في " كلما " تقول: " كلما جئتني أخاك أكرمتُ " قلت: هذا واضحٌ من أنها ليست شرطاً، وهذه العبارةُ تكثُر في عبارة الفقهاء دونَ النحاة. وفي عبارة أبي البقاء ما يُشْعر بما قاله الزمخشري فإنه قال: " وكَذَّبوا " جواب " كلما " " وفريقاً " مفعول بـ " كَذَّبوا " و " فريقاً " منصوب بـ " يقتلون " وإنما قدَّمَ مفعولَ " يقتلون " لتواخي رؤوسِ الآي، وقَدَّم مفعولَ " كَذَّبوا " مناسبة لما بعده.

قال الزمخشري: " فإنْ قلت: لِمَ جيء بأحد الفعلين ماضياً وبالآخر مضارعاً؟ قلت: جِيء بـ " يقتلون " على حكايةِ الحالِ الماضية استفظاعاً للقتلِ، واستحضاراً لتلك الحال الشنيعة للعجبِ منها " انتهى. وقد يقال: فلِمَ لا حُكِيت حالُ التكذيب أيضاً فيُجاء بالفعل مضارعاً لذلك؟ ويُجاب بأنَّ الاستفظاعَ في القتلِ وشناعتِه أكثرُ / من فظاعةِ التكذيب، وأيضاً فإنه لمَّا جِيء به مضارعاً ناسَبَ رؤوس الآي.