الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ }

وقرأ أبو السمَّال: " ولُعنوا " بسكون العين، وحَسَّن تخفيفَها هنا كونُها كسرةً بين ضمتين، ومثلُه قولُ الآخر:
1762- لو عُصْرَ منه البانُ والمسكُ انعصَرْ   
والظاهر أن الضميرَ في " كانوا " عائدٌ على الأحبار والرهبان، ويجوز أن يعودَ على المتقدمين.

وقول تعالى حكايةً عن اليهود: { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } فيه قولان، أحدُهما: أنه خبرٌ مَحْضٌ. وزعم بعضُهم أنه على تقديرِ همزةِ استفهام تقديره: " أيدُ اللَّهِ مغلولةٌ "؟ قالوا ذلك لَمَّا قَتَّر عليهم معيشتهم، ولا يحتاجون إلى هذا التقدير. و " بما قالوا " الباء للسببية أي: لُعنوا بسببِ قولِهم، و " ما " مصدريةٌ، ويجوزُ أن تكونَ موصولةً اسمية والعائدُ محذوف. وغَلُّ اليدِ وبسطُها هنا استعارةٌ للبخل والجود، وإن كان ليس ثَمَّ يدٌ ولا جارحة، وكلامُ العرب ملآنُ من ذلك. قالت العرب: " فلانٌ ينفق بكلتا يديه " قال:
1763- يداك يدا مجدٍ، فكفٌّ مفيدةٌ   وكفٌ إذا ما ضُنَّ بالمالِ تُنْفِقُ
وقال آخر هو ابو تمام:
1764- تعوَّد بَسْطَ الكفِّ حتى لَوَ أنَّه   دعاها لقَبْضٍ لم تُطِعْه أنامِلُهْ
وقد استعارت العربُ ذلك حيث لا يدَ البتة، ومنه قولُ لبيد:
1765-..............   إذْ أصبحَتْ بيدِ الشَمالِ زِمامُها
وقال آخر:
1766- جادَ الحِمَى بَسْطُ اليدين بوابلٍ   شَكَرتْ نداه تِلاعُه ووِهادُهْ
وقالوا: " بَسَطَ اليأسُ كفَّيه في صدري " واليأسُ معنًى لا عينٌ، وقد جعلوا له كَفَّين مجازاً. قال الزمخشري: " فإنْ قلت: لِمَ ثُنِّيت اليد في " بل يداه مبسوطتان " وهي في " يَدُ اللَّهِ مغلولةٌ " مفردةٌ؟ قلت: ليكونَ ردُّ قولِهم وإنكارُه أبلغَ وأدلَّ على إثباتِ غايةِ السخاء له ونَفْيِ البخل عنه، وذلك أنَّ غايةَ ما يبذله السخيُّ من ماله بنفسِه أن يعطيَه بيديه جميعاً فبنى المجازَ على ذلك " وقوله: { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ } يحتمل الخبرَ المحضَ، ويحتمل أن يُرادَ به الدعاءُ عليهم. وفي مصحف عبد الله: " بُسُطان " يقال: " يدٌ بُسُط " على زنة " ناقة سُرُح " و " أُحُد " و " مِشْية سُجُع " ، أي: مبسوطة بالمعروف، وقرأ عبد الله: " بسيطتان " يقال: يد بسيطة أي: مُطْلَقَةٌ بالمعروف.

قوله: { يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } في هذه الجملة خمسةُ أوجه، أحدها: - وهو الظاهر - أنْ لا محلَّ لها من الإِعراب لأنها مستأنفة والثاني: أنها في محلِّ رفع لأنها خبر ثان لـ " يداه " والثالث: أنها في محل نصبٍ على الحال من الضميرِ المستكنِّ في " مبسوطتان " وعلى هذين الوجهين فلا بُدَّ من ضمير مقدَّرٍ عائدٍ على المبتدأ، أو على ذي الحال أي: ينفق بهما، وحَذْفُ مثلِ ذلك قليلٌ.

السابقالتالي
2 3