الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }

قوله تعالى: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ }: المخاطب في " أنبئِّكُم " فيه قولان، أحدهما - وهو الذي لا يَعْرِف أكثرُ / أهلِ التفسير غيرَه: أنه يُراد به أهلُ الكتاب الذين تقدَّم ذكرُهم. والثاني: أنه للمؤمنين، قال ابن عطية: " ومَشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أُمَر أَنْ يقول لهم: " هل أنبئِّكم " هم اليهودُ والكفار المتَّخذون دينَنا هزواً ولعباً، قال ذلك الطبري، ولم يُسْنِد في ذلك إلى متقدِّم شيئاً، والآية تحتمل أن يكونَ القولُ للمؤمنين " انتهى، فعلى كونِه ضميرَ المؤمنين واضحٌ، وتكونُ أَفْعَلُ التفضيل - أعني " بشرّ " - على بابِها، إذ يصير التقدير: قل هل أنبِّئكم يا مؤمنون بشرٍّ من حال هؤلاء الفاسقين؟ أولئك أسلافُهم الذين لعنهم الله، وتكون الإِشارةُ بـ " ذلك " إلى حالِهم، كذا قَدَّره ابنُ عطية، وإنما قَدَّر مضافاً، وهو حال ليصِحَّ المعنى، فإن " ذلك " إشارةٌ للواحدِ، ولو جاءَ مِنْ غيرِ حَذْفِ مضافٍ لقيل: بشرٍّ من أولئكم بالجمع. وقال الزمخشري: " ذلك " إشارةٌ إلى المنقومِ، ولا بد من حذفِ مضافٍ قبلَه أو قبل " من " تقديرُه: بشرٍّ من أهل ذلك، أو دينِ مَنْ لَعَنَه [الله] " انتهى. ويجوزُ ألاَّ يقدَّرَ مضافٌ محذوفٌ لا قبلُ ولا بعدُ، وذلك على لغةِ مَنْ يُشير للمفردِ وللمثنى والمجموع تذكيراً وتانيثاً بإشارةِ الواحدِ المذكر، ويكون " ذلك " إشارةً إلى الأشخاصِ المتقدِّمين الذين هم أهلُ الكتابِ، كأنه قيل: بشرٍّ من أولئك، يعني أن السلف الذي لهم شَرٌّ من الخَلَفِ، وعلى هذا يجيء قولُه { مَن لَّعَنَهُ } مفسِّراً لنفس " ذلك " ، وإنْ كان ضميرَ أهلِ الكتاب وهو قولُ عامةِ المفسرين فيُشْكِل ويحتاج إلى جواب.

ووجهُ الإِشكالِ أنه يصيرُ التقديرُ: " هل أنبِّئكم يا أهلَ الكتاب بشرٍّ من ذلك، و " ذلك " يُراد به المنقومُ وهو الإِيمان، وقد عُلِم أنه لا شرَّ في دينِ الإِسلام البتةَ، وقد أجابَ الناسُ عنه، فقال الزمخشري عبارةً قَرَّر بها الإِشكالَ المتقدمَ، وأجابَ عنه بعد أَنْ قال: " فإنْ قلت: المثوبةُ مختصةٌ بالإِحسان فكيف وَقَعَتْ في الإِساءةِ؟ قلت: وُضِعَتْ موضعَ عقوبةٍ فهو كقوله:
1749-......................   تحيةُ بينِهم ضَربٌ وَجيعُ
ومنهفَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [آل عمران: 21]، وتلك العبارةُ التي ذكرتُها لك هي أن قال: " فإنْ قلت: المعاقَبُ من الفريقين هم اليهودُ، فلِمَ شُورك بينهم في العقوبة؟ قلت: كان اليهودُ - لُعِنوا - يزعمون أن المسلمين ضالُّون مستوجبون للعقوبة، فقيل لهم: مَنْ لعنه الله شرٌّ عقوبةً في الحقيقة واليقينِ من أهل الإِسلام في زعمكم ودعواكم " وفي عبارته بعضُ علاقة وهي قوله: " فلِمَ شُورك بينهم " أي: بين اليهود وبين المؤمنين، وقوله: " من الفريقين " يعني بهما أهلَ الكتاب المخاطبين بـ " أنبِّئكم " ومَنْ لعنه الله وغَضِب عليه، وقوله " في العقوبة " أي: التي وَقَعَت المثوبةُ / موقعَها، ففسَّرها بالأصل، وفَسَّر غيرُه المثوبةَ هنا بالرجوعِ إلى الله تعالى يومَ القيامة، ويترتَّب على التفسيرين فائدةٌ ستظهرُ لك قريباً.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9