الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }

قوله تعالى: { وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعَيسَى }: قد تقدَّم معنى " قَفَّينا " وأنه من قفا يقفو أي: تبع قفاه في البقرة. وقوله: { عَلَىٰ آثَارِهِم بِعَيسَى } كِلا الجارَّيْن متعلقٌ به على تضمينِه معنى " جئْنا به على آثارهم قافياً لهم " وتقدَّم أيضاً أن التضعيفَ فيه ليس للتعديةِ لعلة ذُكِرت هناك. وإيضاحُها أنَّ " قَفا " متعدٍ لواحدٍ قبلَ التضعيفُ، قال تعالى:وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [الإِسراء: 36] فـ " ما " موصولةٌ بمعنى الذي هي مفعول، وتقول العربُ: " قَفا فلانٌ أثرَ فلانٍ " أي: تَبِعه، فلو كان التضعيف للتعدِّي لتَعَدَّى إلى اثنين، فكان التركيبُ يكون: " ثم قَفَّيْنا هم عيسى بن مريم " فـ " هم " مفعول ثاني و " عيسى " أول،ولكنه ضُمِّن كما تقدم، فلذلك تعدَّى بالباء و " على ". قال الزمخشري: " قَفْيْتُه " مثل: عَقَّبْتُه إذا أتبعته، ثم يقال: " قَفَّيْتُه بفلان " مثل: عَقَّبْتُه به، فتعدِّيه إلى الثاني بزيادةِ الباء. فإنْ قلت: أين المفعولُ الأول؟ قلت: هو محذوفٌ والظرفُ الذي " على آثارهم " كالسادِّ مسدِّه، لأنه إذا قَفَّى به على اثرِه فقد قَفَّى به إياه " فكلامُه هنا ينحو إلى أنَّ " قَفَّيه " مضعفاً كقفوتُه ثلاثياً ثم عَدَّاه بالباء، وهذا وإنْ كان صحيحاً من حيث إنَّ فَعًّل قد جاء بمعنى فَعَل المجرد كقَدَّر وقَدَر، إلا أنّ بعضهم زعم أن تعديةَ المتعدي لواحد لا يتعدَّى إلىثاني بالباء، لا تقول في " طعم زيد اللحمَ ": " أطعمتُ زيداً باللحم " ولكنَّ الصوابَ أنه قليل غيرُ ممتنعٍ، جاءت منه ألفاظٌ قالوا: " صَكَّ الحجُر الحجرَ " ثم يقولون: صككتُ الحجرَ بالحجرِ، و " دفع زيدٌ عمراً " ثم: دَفَعْتُ زيداً بعمرو، أي: جعلتُه دافعاً له، فكلامُه: إما ممتنع أو محمولٌ على القليل، وقد أشَرْتُ إلى منعِ أدِّعاء حذفِ المفعول من نحو:َقَفَّيْنَا } [الآية: 87] في البقرة فليُطلب ثَمَّة. وناقشَه الشيخ في قوله: " فقد قَفَّى به إياه " من حيث إنه أتى بالضمير المنفصل مع قدرته على المتصل، فيقول: " قَفَّيْتُه به " قال: " ولو قلت: زيدٌ ضربْتُ بسوط إياه " لم يجز إلا في ضرورة شعر، بل ضربتُه بسوط " وهذا ليس بشيء، لأن ذلك من باب قوله:يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } [الممتحنة: 1]وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } [النساء: 131] وقد تقدَّم تحقيقه.

والضمير في " آثارهم " إمَّا للنبيين لقولِه: { يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ } ، وإمَّا لِمَنْ كُتبت عليهم تلك الأحكام، والأول أظهر لقوله في موضع آخر:بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } [الحديد: 27] و " مصدقاً " حال من " عيسى " قال ابن عطية " وهي حالٌ مؤكدة " وكذلك قال في " مصدقاً " الثانية، وهو ظاهرٌ فإنَّ مِنْ لازم الرَّسول والإِنجيل الذي هو كتاب إلهي أن يكونا مصدِّقَيْن.

السابقالتالي
2 3