قوله تعالى: { فَبِمَا نَقْضِهِم } تقدم الكلام على نظيره، وكذلك{ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } [النساء: 155]. وقرأ الجمهور: " قاسيةً " اسم فاعل من قسا يقسو، وقرأ الأَخَوان: - وهي قراءة عبد الله - " قَسِيَّةً " بفتح القاف وكسر السينِ وتشديدِ الياء. واختلفَ الناسُ في هذه القراءةِ: فقال الفارسي: " ليست في ألفاظِ العربِ في الأصل، وإنما هي كلمةٌ أعجميه معرَّبة " يعني أنها مأخوذةٌ من قولِهم: " دِرْهم قِسِيّ " أي: مَغْشُوش، شَبَّه قلوبَهم في كونِها غيرَ صافيةٍ من الكَدَر بالدارهم المغشوشةِ غير الخالصةِ، وأنشدوا قولَ أبي زبيد:
1711- لها صَواهِلُ في صُمِّ السِّلام كما
صاحَ القَسِيَّات في أَيْدي الصياريفِ
وقوله الآخر:
1712- وما زَوَّدوني غيرَ سَحْقِ عِمامةٍ
وخمسَ مِئٍ منها قِسِيُّ زائفُ
وقال صحاب الكشاف: " وقرأ عبد الله: " قَسِيَّة " أي: رديئة مغشوشة مِنْ قولِهم: " درهم قَسِيّ " وهو من القسوة؛ لأنَّ الذهبَ والفضة الخالصين فهيما لينٌ، والمغشوشُ فيه صلابةٌ ويُبس، والقسي والقاسح - بالحاءِ المهملة - أَخَوانِ في الدلالة على اليُبْس " وهذا القول سبقه إليه المبردُ فإنه قال: " يُسَمَّى الدرهمُ المغشوشُ قَسِيّاً لصلابته وشدتِه للغشِّ الذي فيه " ، وهو يَرْجِعُ للمعنى الأول، والقاسي والقاسح، بمعنى واحد، وعلى هذين القولين تكوت اللفظةُ عربية، وقيل: بل هذه القراءة توافِقُ قراءةُ الجماعة في المعنى والاشتقاق، لأنه فعيل للمبالغة كشاهد وشهيد فكذلك قاسٍ وقسِيّ، وإنما أُنِّث على معنى الجماعةِ. وقرأ الهَيْصم بن شداخ: " قُسِيَّة " بضم القاف وتشديد الياء. وقرئ " قِسَّية " بكسر القاف إتباعاً، وأصل القراءتين: قاسِوَة وقَسِيوة لأنَّ الاشتقاق من القسوة. قوله: { يُحَرِّفُونَ } في هذه الجملة أربعة أوجه، أنها مستأنفة بيانٌ لقسوة قلوبهم، لأنه لا قسوةَ أعظمُ من الافتراء على الله تعالى. والثاني: أنها حال من مفعول " لعنَّاهم " أي: لعنَّاهم حالَ اتصافهم بالتحريف. والثالث: - قال أبو البقاء - أنه حال من الضمير المستتر في " قاسية " ، وقال: " ولا يجوزُ أن يكون حالاً من القلوب، لأن الضمير في " يُحَرِّفون " لا يرجع إلى القلوب " وهذا الذي قاله فيه نظر، لأنه من حيث جَوَّز أن يكونَ حالاً من الضمير في " قاسية " يلزَمُه أن يُجَوِّز أن يكون حالاً من " القلوب " لأنَّ الضميرَ المسترر في " قاسية " يعودُ على القلوب، فكما يمتنع أن يكونَ حالاً مِنْ ظاهره، يمتنع أن يكونَ حالاً من ضميرِه، وكأن المانع الذي توهَّمه كونُ الضمير - وهو الواو في " يُحَرِّفون - إنما يعود على اليهود بجملتِهم لا على قلوبهم خاصةً، فإنَّ القلوبَ لا تُحَرِّف، إنما يحرِّف أصحاب القلوب، وهذا لازمٌ له في تجويزه الحاليةَ من الضمير في " قاسية ".