الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }

قوله تعالى: { مِن بَحِيرَةٍ }: " مِنْ " زائدةٌ لوجودِ الشرطين المعروفين " وجَعَلَ " يجوز أن يكونَ بمعنى " سَمَّى " ويتعدى لمفعولين، أحدهما محذوف، والتقدير: ما جعَلَ - أي ما سَمِّى - اللّهُ حيواناً بَحِيرةً. قاله أبو البقاء وقال ابن عطية والزمخشري وأبو البقاء: " إنها تكونُ معنى شَرَعَ ووضع. أي: ما شَرَع اللّهُ ولا أمره " وقال الواحدي - بعد كلامٍ طويل - " فمعنى ما جعل اللّهُ مِنْ بَحيرةٍ: ما أوجبَها ولا أمر بها " وقال ابن عطية: " وجَعَلَ في هذه الآيةِ لا تكون بمعنى " خلق " لأنَّ الله خَلَق هذه الأشياء كلها، ولا بمعنى " صَيَّر " لأن التصيير لا بد له من مفعول ثان، فمعناه: ما سَنَّ الله ولا شَرَع. ومنع الشيخ هذه النقولاتِ كلِّها بأنَّ " جَعَل " لم يَعُدَّ اللغويون من معانيها شرع، وخَرَّج الآية على التصيير، ويكونُ المفعولُ الثاني محذوفاً أي: ما صَيَّر الله بحيرةً مشروعةً.

والبَحيرة: فَعِلية بمعنى مَفْعولة، فدخولُ تاءِ التأنيث عليها/ لا ينقاس، ولكن لَمَّا جَرَتْ مَجْرى الأسماءِ الجوامدِ أُنِّثت، وهذا قد أوضَحْتُه في قولِهوَٱلنَّطِيحَةُ } [المائدة: 3]. واشتقاقُها من البَحْر، والبَحْر: السَّعَةُ، ومنه " بَحْرُ الماءِ " لسَعَتِه. واختلف أهلُ اللغة في البَحِيرة عند العرب ما هي؟ اختلافاً كثيراً. فقال أبو عبيد: " هي الناقةُ التي تُنْتِج خمسةَ أبطنٍ في آخرها ذَكَرٌ فتُشَقُّ أذنُها وتُتْرَكُ فلا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ ولا تُطْرَدُ عن مَرْعَى ولا ماءٍ، وإذا لَقِيها المُعْيي لم يركبها. وروي ذلك عن ابن عباس، إلا أنه لم يذكر في آخرها ذكَرا وقال بعضهم: " إذا أنتجت الناقة خمسة أبطن نُظر في الخامس: فإن كان ذكرا ذبحوه وأكلوه، وإن كان أنثى شَقُّوا أذنها وتركوها تَرْعى وتَرِدُ ولا تُرِكَبُ ولا تُحلب فهذه هي البحيرة " ورُوِي هذا عن قتادة. وقال بعضهم: " البحيرة: الأنثى التي تكون خامسَ بطنٍ كما تقدَّم بيانُه، إلا أنها لا يَحِلُّ للنساء لحمها ولا لبنها، فإنْ ماتت حَلَّت لهن " وقال بعضهم: " البحيرة: بنت السائبة " وسأتي تفسير السائبة، فإذا وَلدت السائبة أنثى شقوا أذنها وتركوها مع امها ترعى وتَرِدُ ولا تكرب حتى للمُعْيّي، وهذا قولُ مجاهد بن جبر. وقال بعضُهم: " هي التي مُنِع دَرُّها - أي لَبَنُها - لأجل الطواغيت، فلا يَحْلِبُها أحدٌ. وقال بهذا سعيد بن المسيب. وقيل: هي التي تُتْرَكُ في المَرْعى بلا راعٍ، قاله أبنُ سيده وقيل: إذا وَلَدَتْ خمسَ إناث شَقُّوا أذنَها وتركوها. وقال بعضُهم - ويُعْزَى لمسروق -: " إنها إذا وُلِدت خمساً أو سبعاً شَقُّوا أذنَها " وقيل: هي الناقةُ تَلِدُ عشرةَ أبطن فَتُشَقُّ أذنُها طولاً بنصفين، وتُتْرَكُ فلا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ ولا تُطْرَدُ عن مرعى ولا ماء، وإذا ماتَتْ حَلَّ لحمُها للرجال دون النساء " ، نقله ابن عطية، وكذا قاله أبو القاسم الراغب.

السابقالتالي
2 3