الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ }

قوله: { فَإِذَا لَقِيتُمُ }: العاملُ في هذا الظرفِ فعلٌ مقدر هو العاملُ في " ضَرْبَ الرِّقاب " تقديرُه: فاضربوا الرقابَ وقتَ ملاقاتِكم العدوَّ. ومنع أبو البقاء أَنْ يكونَ المصدر نفسُه عاملاً قال: " لأنه مؤكَّدٌ ". وهذا أحدُ القولَيْن في المصدرِ النائبِ عن الفعل نحو: " ضَرْباً زيداً " هل العملُ منسوبٌ إليه أم إلى عامِله؟ ومنه:
4050 ـ على حينَ أَلْهى الناسَ جُلُّ أمورِهمْ   فنَدْلاً زُرَيْقُ المالَ نَدْلَ الثَّعالبِ
فالمالَ منصوبٌ: إمَّا بـ " انْدُلْ " أو بـ " نَدْلا " ، والمصدر هنا أُضيف إلى معمولِه. وبه اسْتُدِلَّ على أنَّ العملَ للمصدرِ لإِضافتِه إلى ما بعدَه، ولو لم يكنْ عامِلاً لما أُضِيْفَ إلى ما بعده.

قوله: " حتى إذا " هذه غايةٌ للأمرِ بضَرْبِ الرقاب. وقرأ السُّلَمِيُّ " فَشِدُّوا " بكسر الشين. وهي ضعيفةٌ جداً. والوَثاق بالفتح - وفيه الكسر - اسمُ ما يُوْثَقُ به.

قوله: { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } فيهما وجهان، أشهرهما: أنهما منصوبان على المصدر بفعلٍ لا يجوزُ إظهارُه؛ لأنَّ المصدرَ متى سِيْقَ تفصيلاً لعاقبةِ جملةٍ وَجَبَ نصبُه بإضمارِ فِعْلٍ لا يجوزُ إظهارُه والتقديرُ: فإمَّا أَنْ تَمُنُّوا مَنًّا، وإمَّا تُفادُوا فداءً. ومثله:
4051 ـ لأَجْهَدَنَّ فإمَّا دَرْءُ واقِعَةٍ   تُخْشَى وإمَّا بلوغُ السُّؤْلِ والأَمَلِ
والثاني: - قاله أبو البقاء - أنهما مفعولان بهما لعاملٍ مقدرٍ تقديره: " أَوْلُوْهُمْ مَنَّاً، واقْبَلوا منهم فداءً ". قال الشيخ: " وليس بإعرابِ نحوي ". وقرأ ابن كثير " فِدَى " بالقصر. قال أبو حاتم: " لا يجوزُ؛ لأنه مصدرُ فادَيْتُه " ولا يُلْتَفت إليه؛ لأنَّ الفراءَ حكى فيه أربعَ لغاتٍ: المشهورةُ المدُّ والإِعرابُ: فداء لك، وفداءٍ بالمد أيضاً والبناء على الكسر والتنوين، وهو غريبٌ جداً. وهذا يُشْبه قولَ بعضِهم " هؤلاءٍ " بالتنوين، وفِدى بالكسر مع القصر، وفَدَى بالفتح مع القصرِ أيضاً.

والأَوْزارُ هنا: الأَثْقال، وهو مجازٌ. قيل: هو مِنْ مجاز الحَذْف أي: أهل الحرب. والأَوْزار عبارةٌ عن آلاتِ الحرب. قال الشاعر:
4052 ـ وأَعْدَدْت للحَرْبِ أوزارَها   رِماحاً طِوالاً وخَيْلاً ذُكوراً
و " حتى " الأولى غايةٌ لضَرْبِ الرِّقاب، والثانيةُ لـ " شُدُّوا ". ويجوزُ أَنْ يكونا غايتين لضَرْبِ الرِّقابِ، على أنَّ الثانيةَ توكيدٌ أو بدلٌ.

قوله: " ذلك " يجوزُ أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: الأمرُ ذلك، وأَنْ ينتصِبَ بإضمارِ افْعَلوا.

قوله: " ليَبْلُوَ بَعْضَكم " أي: ولكنْ أَمَرَكم بالقتال ليَبْلُوَ.

قوله: " قُتِلُوا " قرأ العامَّةُ " قاتلوا " وأبو عمروٍ وحفص " قُتِلوا " مبنياً للمفعولِ على معنى: أنَّهم قُتِلوا وماتوا، أصاب القتلُ بعضَهم كقولِه: { قُتِل مَعَهُ رِبِّيُّونَ }. وقرأ الجحدري " قَتَلوا " بفتح القاف والتاءِ خفيفةً، ومفعولُه محذوفٌ. وزيد بن ثابت والحسن وعيسى " قُتِّلوا " بتشديد التاء مبنياً للمفعول./

وقرأ أمير المؤمنين علي " تُضَلَّ " مبنياً للمفعولِ " أعمالُهم " بالرفع لقيامِه مَقامَ الفاعلِ. وقُرِئَ " تَضِلَّ " بفتح التاء، " أعمالُهم " بالرفع فاعلاً.