الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِيۤ أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ ٱلْخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَخْزَىٰ وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ }

قوله: { صَرْصَراً }: الصَّرْصَرُ: الريحُ الشديدة فقيل: هي الباردةُ مِن الصِّرِّ، وهو البردُ. وقيل: هي الشديدةُ السَّمومِ. وقيل هي المُصَوِّتَةُ، مِنْ صَرَّ البابُ أي: سُمِع صريرُه. والصَّرَّة: الصَّيْحَةُ. ومنه:فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ } [الذاريات: 29]. قال ابن قتيبة: " صَرْصَر: يجوزُ أَنْ يكونَ من الصِّرِّ وهو البردُ، وأَنْ يكونَ مِنْ صَرَّ البابُ، وأَنْ تكونَ من الصَّرَّة، وهي الصيحةُ، ومنه:فَأَقْبَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ } [الذاريات: 29]. وقال الراغب: " صَرْصَر لفظة من الصِّرِّ، وذلك يرجِعُ إلى الشَّدِّ لِما في البرودة من التعقُّدِ ".

قوله: " نَحِساتٍ " قرأ الكوفيون وابن عامر بكسرِ الحاءِ، والباقون بسكونِها. فأمَّا الكسرُ فهو صفةٌ على فَعِل، وفعلُه فَعِل بكسرِ العين أيضاً كفِعْلِهِ يقال: نَحِس فهو نَحِسٌ كفَرِح فهو فَرِحٌ، وأَشِرَ فهو أَشِرٌ. وأمال الليث/ عن الكسائي ألفَه لأجل الكسرةِ، ولكنه غيرُ مشهورٍ عنه، حتى نسبه الدانيُّ للوَهْم.

وأمَّا قراءةُ الإِسكانِ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ يكونَ مخففاً مِنْ فَعِل في القراءةِ المتقدمةِ، وفيه توافُقُ القراءتين. والثاني: أنَّه مصدرٌ وُصِفَ به كرجلٍ عَدْلٍ. إلاَّ أنَّ هذا يُضْعِفُه الجمعُ فإنَّ الفصيحَ في المصدرِ الموصوفِ أَنْ يُوَحَّدَ، وكأنَّ المُسَوِّغَ للجمع اختلافُ أنواعِه في الأصل. والثالث: أنه صفةٌ مستقلةٌ على فَعْل بسكونِ العينِ. ولكن أهلَ التصريفِ لم يذكروا في الصفةِ الجائيةِ مِنْ فَعِلَ بكسرِ العين، إلاَّ أوزاناً محصورةً ليس فيها فَعْل بالسكونِ فذكروا: فَرِحَ فهو فَرِحٌ، وحَوِرَ فهو أحورُ، وشَبعَ فهو شبعانُ، وسَلِمَ فهو سالمٌ، وبَلي فهو بالٍ.

وفي معنى " نَحِسات " قولان، أحدهما: أنها مِن الشُّؤْم. قال السدِّي: أي: مشائيم مِن النَّحْسِ المعروف. والثاني: أنها شديدةُ البردِ. وأنشدوا على المعنى الأول قولَ الشاعرِ:
3954 ـ يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ ويوماً شَمْسا   نَجْمَيْنِ سَعْدَيْنِ ونجماً نَحْسا
وعلى المعنى الثاني قولَ الآخرِ:
3955 ـ كأنَّ سُلافَةً عُرِضَتْ لنَحْسٍ   يُحِيْلُ شَفيفُها الماءَ الزُّلالا
ومنه:
3956 ـ قد أَغْتدي قبلَ طُلوعِ الشمسِ   للصيدِ في يومٍ قليلِ النَّحْسِ
وقيل: يُريدُ به في هذا البيت الغبارَ أي: قليلِ الغبار، وقد قيل بذلك في الآيةِ أنها ذاتُ غُبارٍ. و " نَحِسات " نعتٌ لأيَّام، والجمعُ بالألفِ والتاءِ مُطَّرِدٌ في صفةِ ما لا يَعْقِلُ كأيامٍ معدوداتٍ. وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة.

و " لِنُذِيْقَهُمْ " متعلِّقٌ بـ " أَرْسَلْنا ". وقُرِئ " لِتُذِيقَهم " بالتاءِ مِنْ فوقُ. وفي الضمير قولان، أحدهما: أنه الريحُ أي: لتذيقَهم الريحُ أو الأيَّامُ على سبيل المجاز. وعذاب الخِزْيِ من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه، ولذلك قال: { وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَخْزَىٰ } فإنه يَقْتضِي المشاركةَ وزيادةً. وإسنادُ الخِزْيِ إلى العذابِ مجازٌ لأنه سَبُبه.