الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ }

والدُّخان: ما ارتفع مِنْ لَهَبِ النار، ويُسْتعار لِما يُرى مِنْ بخارِ الأرضِ عند جَدْبِها. وقياسُ جَمْعِه في القلةِ: أَدْخِنة، وفي الكثرة: دِخْنان نحو غُراب وأَغْرِبة وغِربان، وشذُّوا في جَمْعِه على دواخِن. قيل: هو جمعُ داخِنة تقديراً على سبيلِ الإِسناد المجازيِّ. ومثله: عُثان وعَواثِن.

قوله: " وهي دُخانٌ " من باب التشبيهِ الصُّوري؛ لأن صورتِها صورةُ الدخان في رأي العَيْنِ.

قوله: " أَتَيْنا " قرأ العامَّةُ " ائْتِيا " أمراً من الإِتْيان، " قالتا أَتَيْنا " منه أيضاً. وقرأ ابنُ عباس وابنُ جبير ومجاهدٌ: " آتِيا قالتا آتَيْنا " بالمدِّ فيهما. وفيه وجهان، أحدُهما: أنه من المُؤَاتاة، وهي الموافَقَةُ أي: ليوافِقْ كلٌّ منكما الأخرى لِما يليقُ بها، وإليه ذهب الرازي والزمخشري. فوزنُ " آتِيا " فاعِلا كقاتِلا، و " آتَيْنا " وزنُه فاعَلْنا كقاتَلْنا./ والثاني: أنَّه من الإِيْتاء بمعنى الإِعطاء، فوزنُ آتِيا أَفْعِلا كأَكْرِما، ووزن آتَيْنا أَفْعَلْنا كأَكْرَمْنا. فعلى الأول يكونُ قد حَذَفَ مفعولاً، وعلى الثاني يكونُ قد حَذَفَ مفعولَيْن إذ التقدير: أَعْطِيا الطاعةَ مِنْ أنفسكما مَنْ أَمَرَكما. قالتا: أَعْطَيْناه الطاعة.

وقد مَنَع أبو الفضل الرازيُّ الوجهَ الثاني. فقال: " آتَيْنا " بالمَدِّ على فاعَلْنا من المُؤاتاة، بمعنى سارَعْنا، على حَذْفِ المفعولِ به، ولا تكونُ من الإِيتاء الذي هو الإِعطاءُ لبُعْدِ حَذْفِ مفعولَيْه ". قلت: وهذا هو الذي مَنَعَ الزمخشريِّ أَنْ يَجْعَلَه من الإِيتاء.

قوله " طَوْعاً أو كَرْهاً " مصدران في موضعِ الحال أي: طائِعتين أو مُكْرَهَتَيْن. وقرأ الأعمشُ " كُرْهاً " بالضم. وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك في النساء.

قوله: " قالتا " أي: قالَتِ السماء والأرض. وقال ابنُ عطية: " أراد الفرقتَيْن المذكورتَيْن. جَعَلَ السماواتِ سماءً، والأرضين أرضاً، وهو نحوُ قولِ الشاعر:
3948 ـ ألم يُحْزِنْكَ أنَّ حبالَ قومي   وقومِك قد تبايَنَتا انْقِطاعا
عَبَّر عنهما بـ " تَباينتا ". قال الشيخ: " وليس كما ذَكَر؛ لأنه لم يتقدَّمْ إلاَّ ذِكْرُ الأرضِ مفردةً والسماءِ مفردةً، فلذلك حَسُن التعبيرُ بالتثنيةِ. وأمَّا البيتُ فكأنه قال: حَبْلَيْ قومي وقومِك، وأنَّثَ في " تبايَنَتا " على المعنى لأنه عنى بالحبالِ المودَّة ".

قوله: " طائِعِين " في مجيئِه مجيءَ جَمْعِ المذكرِين العقلاءِ وجهان، أحدهما: أنَّ المرادَ: أَتيا بمَنْ فيهما من العقلاء وغيرِهم، فلذلك غَلَّب العقلاءَ على غيرِهم، وهو رَأْيُ الكسائيِّ. والثاني: أنه لمَّا عامَلهما معاملةَ العقلاء في الإِخبارِ عنهما والأمرِ لهما جُمِعا كجَمْعِهم، كقولِه:رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [يوسف: 4] وهل هذه المحاوَرَةُ حقيقةٌ أو مجازٌ؟ وإذا كانت مجازاً فهل هو تمثيلٌ أو تخييلٌ؟ خلافٌ.