الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ وٱلسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ }

قوله: { إِذِ ٱلأَغْلاَلُ }: جَوَّزوا في " إذ " هذه أَنْ تكونَ بمعنى " إذا " لأنَّ العاملَ فيها محقَّقُ الاستقبالِ، وهو " فسوف يَعْلمون " ، قالوا: وكما تقع " إذا " موقعَ " إذ " في قوله تعالى:وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } [الجمعة: 11] كذلك تقع " إذ " مَوْقِعَها، وقد مضى نحوٌ من هذا في البقرة عند قولهوَلَوْ يَرَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِذْ يَرَوْنَ ٱلْعَذَابَ } [البقرة: 165]. قالوا: والذي حَسَّن هذا تَيَقَّنَ وقوعَ الفعلِ فأُخْرِجَ في صورةِ الماضي. قلت: ولا حاجةَ إلى إخراجِ " إذ " عن موضوعِها، بل هي باقيةٌ على دلالتِها على المضيِّ، وهي منصوبةٌ بقولِه " فسوفَ يَعْلَمون " نَصْبَ المفعولِ به أي: فسوف يعلمونَ يومَ القيامة وَقْتَ الأغلالِ في أعناقِهم أي: وقتَ سببِ الأغلالِ، وهي المعاصي التي كانوا يَفْعَلونها في الدنيا كأنَّه قيل: سيعرفون وقتَ معاصيهم التي تجعل الأَغلالَ في أعناقِهم. وهو وجهٌ واضحٌ، غايةُ ما فيه التصرُّف في " إذ " بجَعْلِها مفعولاً بها، ولا يَضُرُّ ذلك؛ فإنَّ المُعْرِبين غالِبُ أوقاتِهم يقولون: منصوبٌ بـ اذْكُرْ مقدراً ولا يكون حينئذٍ إلاَّ مفعولاً به لاستحالةِ عملِ المستقبل في الزمنِ الماضي. وجَوَّزوا أَنْ يكونَ منصوباً بـ اذْكُرْ مقدَّراً أي: اذكُرْ لهم وقتَ الأغلالِ ليخافوا ويَنْزَجِروا. فهذه ثلاثةُ أوجهٍ، خيرُها أوسطُها.

قوله: " والسَّلاسِلُ " العامَّةُ على رَفْعِها. وفيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه معطوفٌ على الأغلال، وأخبر عن النوعَيْن بالجارِ، فالجارُّ في نية التأخير. والتقديرُ: إذ الأغلالُ والسَّلاسلُ في أعناقِهم. الثاني: أنه مبتدأٌ، وخبرُه محذوفٌ لدلالةِ خبر الأولِ عليه. الثالث: أنه مبتدأٌ أيضاً، وخبرُه الجملةُ مِنْ قولِه " يُسْحَبُون ". ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرٍ يعودُ عليه منها. والتقديرُ: والسَّلاسل يُسْحَبُون بها حُذِفَ لقوةِ الدلالةِ عليه. فَيُسْحَبُون مرفوع المحلِّ على هذا الوجهِ. وأمَّا في الوجهَيْن المتقدِّمين فيجوز فيه النصبُ على الحالِ من الضمير المَنْوِيِّ في الجارِّ، ويجوزُ أَنْ يكونَ مستأنفاً.

وقرأ ابن مسعود وابنُ عباس وزيد بن علي وابن وثاب والمسيبي في اختيارِه " والسلاسلَ " نَصْباً " يَسْحَبون " بفتح الياءِ مبنياً للفاعلِ، فيكون " السلاسلَ " مفعولاً مقدماً، ويكونُ قد عَطَفَ جملةً فعليةً على جملةٍ اسميةٍ. قال ابن عباس في معنى/ هذه القراءة: " إذ كانوا يَجُرُّوْنها، فهو أشدُّ عليهم يُكَلَّفون ذلك، ولا يُطيقونه ". وقرأ ابنُ عباس وجماعةٌ " والسلاسلِ " بالجرِّ، " يُسْحَبون " مبنياً للمفعولِ. وفيها ثلاثةُ تأويلاتٍ، أحدُها: الحَمْلُ على المعنى تقديرُه: إذ أعناقُهم في الأغلالِ والسلاسلِ، فلمَّا كان معنى الكلام ذلك حُمِل عليه في العطف. قال الزمخشري: " ووجهُه أنه لو قيل: إذ أعناقُهم في الأغلال، مكانَ قوله: { إِذِ ٱلأَغْلاَلُ فِيۤ أَعْنَاقِهِمْ } لكان صحيحاً مستقيماً، فلمَّا كانتا عبارتين مُعْتَقِبتين حَمَلَ قولَه: " والسلاسل " على العبارةِ الأخرى.

السابقالتالي
2 3