الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ }

قوله: { مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ }: يُحتمل أَنْ يكونَ متعلِّقاً بـ " يَكْتُمُ " بعده أي: يكتمه مِنْ آلِ فرعون. والثاني: - وهو الظاهرُ - أنَّه متعلق بمحذوفٍ صفةً لرجل. وجاء هنا على أحسنِ ترتيبٍ: حيث قَدَّمَ المفردَ ثم ما يَقْرُبُ منه وهو حرفُ الجرِّ، ثم الجملةَ. وقد تقدم إيضاحُ هذه المسألةِ في المائدةِ وغيرِها. ويترتَّبُ على الوجهين: هل كان هذا الرجلُ مِنْ قَرابَةِ فرعونَ؟ فعلى الأولِ لا دليلَ فيه، وعلى الثاني فيه دليلٌ. وقد رَدَّ بعضُهم الأولَ: بأنه لا يُقال: كَتَمْتُ مِنْ فلانٍ كذا، إنما يقال: كَتَمْتُ فلاناً كذا، فيتعدَّى لاثنين بنفسِه. قال تعالى:وَلاَ يَكْتُمُونَ ٱللَّهَ حَدِيثاً } [النساء: 42]. وقال الشاعر:
3925 ـ كَتَمْتُكَ هَمَّاً بالجَمومَيْنِ ساهِراً   وهَمَّيْن هَمَّاً مُسْتَكِنَّاً وظاهراً
أحاديثَ نَفْسٍ تشتكي ما برَبِّها   ووِرْدَ هُمومٍ لَنْ يَجِدْنَ مَصادِرا
أي: كتمتُك أحاديثَ نفسٍ وهَمَّيْن، فقدَّم المعطوفَ على المعطوفِ عليه، ومحلُّه الشعرُ.

قوله: { أَن يَقُولَ رَبِّيَ } أي: كراهةَ أَنْ يقولَ أو لأَنْ يقولَ. والعامَّةُ على ضَمِّ عين " رَجُل " وهي الفصحى. والأعمش وعبد الوارث على تسكينها، وهي لغةُ تميمٍ ونجد. وقال الزمخشري: " ولك أَنْ تُقَدِّرَ مضافاً محذوفاً أي: وقت أَنْ يقولَ. والمعنى: أتقتلونه ساعةَ سَمِعْتم منه هذا القولَ من غير رَوِيَّةٍ ولا فِكْرٍ ". وهذا الذي أجازه رَدَّه الشيخ: بأنَّ تقديرَ هذا الوقتِ لا يجوزُ إلاَّ مع المصدرِ المُصَرَّحِ به تقول: جِئْتُكَ صياحَ الدِّيْكِ أي: وقتَ صِياحِه، ولو قلت: أجيْئُك أنْ صاحَ الديكُ، أو أَنْ يصيحَ، لم يَصِحَّ. نصَّ عليه النحويون.

قوله: " وقد جاءَكم " جملةٌ حالية يجوز أَنْ تكونَ من المفعول. فإنْ قيلَ: هو نكرةٌ./ فالجوابُ: أنه في حيِّزِ الاستفهام وكلُّ ما سَوَّغ الابتداءَ بالنكرةِ سَوَّغ انتصابَ الحال عنها. ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الفاعل.

قوله: { بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ } " بعض " على بابِها، وإنما قال ذلك ليهضِمَ موسى عليه السلام بعضَ حقه في ظاهرِ الكلام، فيُرِيَهم أنه ليس بكلامِ مَنْ أعطاه حقه وافياً فَضْلاً أَنْ يتعصَّبَ له، قاله الزمخشري. وهذا أَحسنُ مِنْ قولِ غيرِه: إنَّها بمعنى كل، وأنشدوا قولَ لبيد:
3926 ـ تَرَّاكُ أَمْكنةٍ إذا لم يَرْضَها   أو يَرْتَبِطْ بعضُ النفوسِ حِمامُها
وأنشدوا قولَ عمرو بن شُيَيْم:
3927 ـ قد يُدْرِكُ المتأنِّي بعضَ حاجتِه   وقد يكونُ مع المستعجِلِ الزَّلَلُ
وقول الآخر:
3928 ـ إنَّ الأمورَ إذا الأحداثُ دَبَّرها   دون الشيوخِ ترى في بعضِها خَلَلا
ولا أدري كيف فَهِموا الكلَّ من البيتين الأخيرين؟ وأَمَّا الأولُ ففيه بعضُ دليلٍ؛ لأنَّ الموتَ يأتي على الكلِّ. ولَمَّا حكى هذا الزمخشريُّ عن أبي عبيدة، وأنشد عنه بيتَ لبيدٍ قال: " إن صَحَّتِ الروايةُ عنه فقد حَقَّ فيه قولُ المازني في مسألة العَلْقى: " كان أَجْفَى مِنْ أن يفقهَ ما أقولُ له ".

السابقالتالي
2