الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَٰقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَٰتِلُوكُمْ أَوْ يُقَٰتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَٰتَلُوكُمْ فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً }

قوله تعالى: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ }: فيه قولان، أظهرُهما: أنه استثناءٌ متصلٌ، والمستثنى منه قولُه { فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ } والمُسْتَثْنَوْن على هذا قومٌ كفارٌ، ومعنى الوَصْلةِ هنا الوَصْلَةُ بالمعاهَدَةِ والمهادَنَةِ، وقال أبو عبيد: " هو اتصالُ النسب " وغَلَّطة النحاس بأن النسبَ كان ثابتاً بين النبيِّ صلَّى الله عليه وسلم والصحابة وبين المشركين، ومع ذلك لم يَمْنَعْهم ذلك من قتالهم. والثاني: أنه منقطعٌ - وهو قول أبي مسلم الأصفهاني، واختيار الراغب - قال أبو مسلم: " لَمَّا أوجبَ اللَّهُ الهجرةَ على كلِّ مَنْ أسلمَ استثنى مَنْ له عذرٌ فقال: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ } وهم قوم قصدوا الهجرة إلى الرسول ونصرتَه، وكان بينهم وبين المسلمين عَهْدٌ فأقاموا عندهم إلى أن يمكِّنهم الخلاصُ، واستثنى بعد ذلك مَنْ صار إلى الرسول وإلى أصحابِه لأنه يَخافُ اللَّهَ فيه، ولا يقاتِلُ الكفارَ أيضاً لأنهم أقاربُه، أو لأنه يخاف على أولاده الذين هم في أيديهم " فعلى هذا القولِ يكون استثناءً منقطعاً، لأن هؤلاء المستثنين لم يدخُلوا تحت قولِه: { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } والمستثَنْون على هذا مؤمنون.

و { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } يجوز أن يكونَ جملةً من مبتدأ وخبر في محل جرِّ صفةً لـ " قوم " ، ويجوز أن يكونَ " بينكم " وحده صفةً لـ " قوم " فيكونَ في محلِّ جر ويتعلَّقُ بمحذوفٍ، و " ميثاق " على هذا رفعٌ بالفاعلية؛ لأنَّ الظرفَ اعتمد على موصوفٍ، وهذا الوجهُ أقربُ؛ لأنَّ الوصفَ بالمفردِ أصلٌ للوصفِ بالجملة.

قوله: { أَوْ جَآءُوكُمْ } فيه وجهان، أظهرُهما: أنه عطفٌ على الصلة، كأنه قيل: أو إلا الذين جاؤوكم حَصِرَتْ صدورُهم، فيكون المستثنى صنفين من الناس، أحدهما واصلٌ إلى قومٍ معاهِدين، والآخر مَنْ جاء غَيْر مقاتِلٍ للمسلمين ولا لقومِه. والثاني: أنه عطفٌ على صفةِ " قوم " وهي قولُه { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } فيكون المستثنى صنفاً واحداً يختلف باختلافِ مَنْ يصل إليه من معاهِدٍ وكافرٍ. واختار الأولَ الزمخشري وابن عطية، قال الزمخشري: " الوجهُ العطفُ على الصلةِ لقوله: { فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ } بعد قوله: { فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ } فقرَّر أنَّ كفَّهم عن القتال أحدُ سببي استحقاقِهم لنفي التعرُّض لهم، وتَرْكِ الإِيقاع. بهم. فإن قلت: كلُّ واحد من الاتصالين له تأثيرٌ في صحة الاستثناء استحقاقِ تَرْكِ التعرضِ للاتصال بالمعاهِدين والاتصالِ بالكافِّين، فهلا جَوَّزْتَ أن يكون العطفُ على صفةِ " قوم " ويكون قولُه: { فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ } تقريراً لحكمِ اتِّصالهم بالكافِّين واختلاطِهم بهم وجَرْيهم على سُنَنِهم؟ قلت: هو جائز، ولكنّ الأولَ أظهرُ وأجْرى على أسلوب الكلام " انتهى.

وإنما كان أظهرَ لوجهين، أحدهما من جهة الصناعة، والثاني من جهة المعنى: أمَّا الأولُ فلأنَّ عطفَه على الصلة لكون النسبة فيه إسناديةً، وذلك أن المستثنى مُحَدَّثٌ عنه محكومٌ له بخلاف حكم المستثنى منه، فإذا قَدَّرْتَ العطفَ على الصلة كان مُحَدَّثاً عنه بما عَطَفْتَه بخلاف ما إذا عَطّفْتَه على الصفة، فإنه يكونُ تقييداً في " قوم " الذين هم قيدٌ في الصلةِ المُحَدَّثِ عن صاحبها، ومتى دار الأمر بين أن تكون النسبة إسناديةً وبين أن تكون تقييدية كان جعلُها إسناديةً أَوْلى لاستقلالها.

السابقالتالي
2 3 4