الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواْ ٱللَّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً }

قوله تعالى: { وَلْيَخْشَ ٱلَّذِينَ }: قرأ الجمهورُ بسكون اللام في الأفعال الثلاثةِ. وهي لامُ الأمر، والفعلُ بعدها مجزومٌ بها. وقرأَ الحسن وعيسى بن عمر بكسرِ اللامِ في الأفعالِ الثلاثةِ، وهو الأصلُ، والإِسكانُ تخفيفٌ إجراءً للمنفصل مُجْرى المتصل، فإنهم شَبِّهوا " وَلْيخش " بـ " كَتِف " وهذا كما تقدَّم الكلامُ في نحو: " وهي " و " لَهْي " في أول البقرة.

و " لو " هذه فيها احتمالان، أحدُهما: أنَّها على بابِها مِنْ كونِها حرفاً لِما كان سيقع لوقوع غيره، أو حرفَ امتناع لامتناع على اختلاف العبارتين. والثاني: أنها بمعنى " إنْ " الشرطية. وإلى الاحتمال الأولِ ذهب ابن عطية والزمخشري. قال الزمخشري: " فإنْ قلت: ما معنى وقوعِ " لو تركوا " وجوابِه صلةً لـ " الذين "؟ قلت: معناه: وَلْيخش الذين صفتُهم وحالُهم أَنهم لو شارَفوا أَنْ يَتْرُكُوا خلفَهم ذريةً ضِعافاً، وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياعَ بعدهم لذهابِ كافلهم وكاسبهم، كما قال القائل:
1550ـ لقد زادَ الحياةَ إليَّ حُبَّاً     بناتِي أنَّهن من الضِعافِ
أُحاذِرُ أن يَرَيْنَ البؤس بعدي     وأن يَشْرَبْنَ رنْقاً بعد صافي
وقال ابن عطية: " تقديرُه: لو تَرَكُوا لخافُوا، ويجوزُ حذفُ اللامِ من جواب لو " ، ووجهُ التمسُّكِ بهذه العبارةِ أنه جَعَلَ اللامَ مقدرةً في جوابِها، ولو كانت " لو " بمعنى " إنْ " الشرطية لَما جاز ذلك، وقد صَرَّح غَيرُهما بذلك، فقال: " لو تركوا " " لو " يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، و " خافوا " جوابُ " لو ".

وإلى الاحتمال الثاني ذهب أبو البقاء وابن مالك، قال ابن مالك: " لو " هنا شرطيةٌ بمعنى " إنْ " ، فتقلِبُ الماضي إلى معنى الاستقبال، والتقدير: وَلْيخش الذين إنْ تركوا، ولو وقع بعد " لو " هذه مضارع كان مستقبلاً كما يكونُ بعد " إنْ " وأنشد:
1551ـ لا يُلْفِكُ الرَّاجوك إلا مُظْهِراً     خُلُقَ الكرامِ ولو تكونُ عَدِيما
أي: وإنْ تكن عديماً. ومثلُ هذا البيتِ الذي أنشده قولُ الآخر:
1552ـ قومٌ إذا حارَبُوا شدَّوا مآزِرَهُمْ     دونَ النساءِ ولو باتَتْ بأطْهارِ
والذي ينبغي: أن تكونَ على بابِها من كونِها تعليقاً في الماضي.

وإنما حَمَل ابنَ مالك وأبا البقاء على جَعْلِها بمعنى " إنْ " توهُّمُ أنه لَمَّا أمر بالخشية ـ والأمرُ مستقبل ومتعلَّقُ الأمر موصولٌ ـ لم يَصِحَّ أن تكون الصلةُ ماضيةً على تقدير دلالتِه على العَدَمِ الذي يُنَافي امتثالَ الأمر، وحَسَّنَ مكانَ " لو " لفظُ " إنْ " ، ولأجلِ هذا التوَهُّمِ لم يُدْخِل الزمخشري " لو " على فعل مستقبل، بل أتى بفعلٍ ماضٍ مسندٍ للموصولِ حالةَ الأمر فقال: " وَلْيخش الذين صفتُهم وحالُهم أنهم لو شارَفُوا أن يتركوا ".

السابقالتالي
2