الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً }

قوله تعالى: { فَمَا لَكُمْ }: مبتدأ وخبر. و " في المنافقين " فيه ثلاثة أوجه، أحدها: أنه متعلقٌ بما تعلَّق به الخبرُ وهو " لكم " أي: أيُّ شيءٌ كائنٌ لكم - أو مستقر لكم - في أمر المنافقين. والثاني: أنه متعلق بمعنى فئتين، فإنه في قوة " ما لكم تفترقون في أمور المنافقين " فحُذِف المضافُ، وأُقيم المضافُ إليه مُقامَه. والثالث: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " فئتين " لأنه في الأصل صفةٌ لها، تقديرُه: فئتين مفترقتين في المنافقين، وصفةُ النكرة إذا قُدِّمت عليها انتصبَتْ حالاً.

وفي " فئتين " وجهان، أحدُهما: أنها حالٌ من الكاف والميم في " لكم " ، والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به " لكم " ومثلُه:فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } [المدثر: 49]، وقد تقدَّم أنَّ هذه الحالَ لازمةٌ؛ لأن الكلامً لا يَتِمُّ دونَها، وهذا مذهبُ البصريين في كل ما جاء من هذا التركيب والثاني - وهو مذهب الكوفيين-: أنه نصبٌ على خبر " كان " مضمرةً، والتقدير: ما لكم في المنافقين كنتم فئتين، وأجازوا: " ما لك الشاتمَ " أي: ما لك كنت الشاتمَ، والبصريون لا يجيزون ذلك لأنه حالٌ والحالُ لا تتعرَّف، ويدلُّ على كونه حالاً التزامُ مجيئه في هذا التركيب نكرةً، وهذا كما قالوا في " ضربي زيداً قائماً " إن " قائماً " لا يجوز نصبُه على خبر " كان " المقدرةِ، بل على الحال لالتزامِ تنكيره. وقد تقدَّم اشتقاقُ " الفئة " في البقرة.

قوله: { وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ } مبتدأ وخبر، وفيها وجهان أظهرهما: أنها حالٌ: إمَّا من المنافقين - وهو الظاهرُ - وإمَّا من المخاطبين، والرابطُ الواوُ، كأنه انكرَ عليهم اختلافَهم في هؤلاء، والحال أن الله قد ردَّهم إلى الكفر. والثاني: أنها مستأنفةٌ أخبر تعالى عنهم بذلك. و " بما كَسَبوا " متعلقٌ بـ " أَرْكَسهم " والباء سببية أي: بسبب كَسْبهم، و " ما " مصدريةٌ أو بمعنى الذي، والعائدُ محذوفٌ على الثاني لا [على] الأولِ على الصحيح.

والإِركاس: الردُّ والرَّجْعُ، ومنه الرِّكْس للرجيع، قال عليه السلام في الرَّوْثة لمَّا أُتِيَ بها: " إنها رِكْس " وقال أمية بن أبي الصلت:
1633- فَأُرْكِسوا في جحيم النار إنَّهمُ   كانوا عصاةً وقالو الإفْكَ والزورا
أي: رُدُّوا، وقال الراغب: " الرِّكْس والنِّكْس: الرِّذْلُ، إلا أنَّ الرِّكْس أبلغُ، لأن النِّكَس ما جُعِل أعلاه أسفله، والرِّكس ما صار رجيعاً بعد أن كان طعاماً. وقيل: أَرْكسه أَوْبقَه، قال:
1634- بشُؤْمِك أَرْكَسْتَني في الخَنا   وأَرْمَيْتَني بضروبِ العَنا
وقيل: الإِركاس: الإِضلال، ومنه:
1365- وأَرْكَسْتَنِي عن طريق الهدى   وصَيَّرْتَنِي مَثَلاً للعِدى
وقيل: هو التنكيسُ، ومنه:

السابقالتالي
2