الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً }

قوله تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ }: في " حتى " هذه وما أشبهها ـ أعني الداخلةَ على " إذا " ـ قولان، أشهرُهما: أنها حرف غاية دَخَلَتْ على الجملةِ الشرطية وجوابِها، والمعنى: وابْتَلوا اليتامى إلى وقت بلوغِهم واستحقاقِهم دَفْعَ أموالِهم بشرطِ إيناس الرُّشْد، فهي حرف ابتداء كالداخلة على سائر الجمل كقوله:
1545ـ وما زالَتِ القَتْلى تَمُجُّ دماءها     بِدَجْلَةَ حتى ماءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ
وقول امرىء القيس:
1546ـ سَرَيْتُ بهم حتى تَكِلَّ مَطِيُّهم     وحتى الجيادُ ما يُقَدْنَ بِأَرْسانِ
والثاني: ـ وهو قول جماعة منهم الزجاج وابن دُرُسْتويه ـ أنَّها حرف جر، وما بعَدها مجرور بها، وعلى هذا فـ " إذا " تتمحَّض للظرفيةِ، ولا يكون فيها معنى الشرط، وعلى القولِ الأولِ يكونُ العاملُ في " إذا " ما تخلَّص من معنى جوابِها تقديرُه: إذا بلغوا النكاح راشِدين فادْفَعوا.

وظاهرُ عبارةِ بعضهم أنَّ " إذا " ليست بشرطية، قال: " وإذا ليست بشرطيةٍ لحصول ما بعدَها، وأجاز سيبويه أن يُجازى بها في الشعرِ، وقال: " فَعلوا ذلك مضطرين " ، وإنما جُوزي بها لأنها تحتاج إلى جواب، وبأنه يَليها الفعلُ ظاهراً أو مضمراً، واحتجَّ الخليل على عدمِ شرطيَّتِها بحصولِ ما بعدها، ألا ترى أنك تقول: " أجيئك إذا احمرَّ البُسْر " ، ولا تقولُ: " إنْ احمرَّ ". قال الشيخ: " وكلامُه يدل على أنها تكونُ ظرفاً مجرداً ليس فيها معنى الشرط، وهو مخالفٌ للنحويين، فإنهم كالمجمِعين على أنها ظرفٌ فيها معنى الشرط غالباً، وإن وجد في عبارةِ بعضِهم ما يَنْفي كونَها أداةَ شرطٍ فإنما يعني أنها لا يُجْزم بها لا أنها لا تكون شرطاً ". وقَدَّر بعضهُم مضافاً قال: " تقديره: بلغوا حَدَّ النكاح أو وقتَه، والظاهرُ أنه لا يُحتاج إليه، إذ المعنى: صَلَحوا للنكاح. والفاءُ في قوله: { فَإِنْ آنَسْتُمْ } جوابُ " إذا " ، وفي قولِه " فادْفَعُوا " جوابُ " إنْ ".

وقرأ ابن مسعود: " فإن أحَسْتُم " والأصل: أحْسَسْتُم فَحَذَفَ إِحدى السينين، ويُحتمل أن تكونَ العينَ أو اللام، ومثلُه قول أبي زبيد:
1547ـ سِوى أنَّ العِتاقَ من المَطايا     حَسِيْنَ به فهنَّ إليه شوسُ
وهذا حذفٌ لا ينقاس، ونَقَلَ بعضُهم أنها لغة سُلَيْم، وأنها مُطَّردة في عين كل فعلٍ مضاعفة اتصل به تاءُ الضمير أو نونُه.

ونكَّر " رُشْداً " دلالةً على التنويعِ، والمعنى: أيُّ نوعٍ حَصَل من الرشدِ كان كافياً. وقرأ الجمهور: " رُشْداً " بضمة وسكون، وابن مسعود والسلمي بفتحتين، وبعضُهم بضمتين. وسيأتي الكلامُ على ذلك في الأعراف مشبعاً إن شاء الله تعالى.

وآنَسَ كذا: أحسَّ به وشَعَر، قال:
1548ـ آنَسَتْ نَبْأَةً وأَفزعها القُنــ    ــاصُ عَصْراً وقد دَنا الإِمساءُ

السابقالتالي
2 3