الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ إِلَىۤ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً }

قوله تعالى: { أَن تُؤدُّواْ }: منصوبُ المحلِّ: إمَّا على إسقاط حرف الجر؛ لأنَّ حَذْفَه يَطَّرِدُ مع " أنْ " ، إذا أُمِنَ اللَّبْسُ لطولِهما بالصلة، وإمَّا لأن " أَمَر " يتعدَّى إلى الثاني بنفسِه نحو: " أمرتك الخير ". فعلى الأول يجري الخلافُ في محلِّها: أهي في محلِّ نصبٍ أم جر، وعلى الثاني: هي في محلِّ نصبٍ فقط. وقُرئ " الأمانةَ ".

والظاهرُ أنَّ قوله: { أَن تَحْكُمُواْ } معطوفٌ على أَنْ تُؤَدُّوا " أي: يأمركم بتأديةِ الأماناتِ وبالحكمِ بالعدلِ، فيكونُ قد فصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف، وهي مسألة خلاف: ذهب الفارسي الى مَنْعِها إلا في الشعر، وذهب غيره إلى جوازها مطلقاً. ولننقِّحْ محلِّ الخلاف أولاً فأقول: إنَّ حرف العطف إذا كان على حرف واحد كالواو والفاء: هل يجوزُ أن يُفْصَلَ بينه وبين ماعَطَفه بالظرفِ وشِبْهِهِ أم لا؟ ذهب الفارسي إلى مَنْعِه مستدلاً بأنه إذا كان على حرف واحد فقد ضَعُف، فلا يتوسَّط بينه وبين ما عطفه شيءٌ إلا في ضروة كقوله:
1595ـ يوماً تَراها كشِبْه أَرْدِيَةِ الـ   عَضْب ويوماً أَدِيمَها نَغِلا
تقديره: " وترى أديمها نَغِلاً يوماً " فَفَصَل بـ " يوماً. وذهب غيرُه إلى جوازِه مُسْتَدِلاًّ بقوله:رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً } [البقرة: 201]فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [هود: 71]وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } [يس: 9]ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَٱوَاتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنّ } [الطلاق: 12] { أَن تُؤدُّواْ ٱلأَمَانَاتِ..... } الآية.

وقال صاحب هذا القول: إن المعطوف عليه إذا كان مجروراً بحرف أُعيد ذلك الحرفُ مع المعطوفِ نحو: " امرُرْ بزيدٍ وغداً بعمروٍ " وهذه الشواهدُ لا دليلَ فيها: أمَّا " في الدنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً " وقوله: " وجَعَلْنَا من بينِ أيديهم " فلأنَّه عَطَفَ شيئين على شيئين: عَطَفَ " الآخرة " على " الدنيا " بإعادة الخافضِ، وعَطَفَ " حسنةً " الثانيةَ على " حسنةً " الأولى، وكذلك عطف " مِنْ خلفهم " على " من بين " ، و " سداً " على " سداً " وكذلك البيت عطف فيه " أَدِيمَها " على المفعولِ الأولِ لـ " تَراها " و " نَغِلا " على الثاني وهو " كشِبْه " و " يوماً " الثاني على " يوماً " الأول، فلا فصلَ فيه حينئذ، وحينئذ يقال: ينبغي لأبي عليّ أن يمنعَ مطلقاً، ولا يَسْتثني الضرورة، فإن ما استشهد به مؤولٌ عل ما ذَكَرْتُ. فإنْ قيل: إنَّما لم يجعلْه أبو علي من ذلك لأنه يؤدِّي إلى تخصيصِ الظرفِ الثاني بما وَقَعَ في الأولِ، وهو انه تراها كشِبْه أردية العَضْب في اليوم الأول والثاني؛ لأنَّ حكمَ المعطوف حكمُ المعطوفِ عليه فهو نظيرُ قولك: " ضربت زيداً يوم الجمعة ويوم السبت، فـ " يومَ السبت " مقيَّدٌ بضربِ زيد كما يُقيَّد به يوم الجمعة، لكن الغرض أن اليوم الثاني في البيت مُقَيَّدٌ بقيد آخر وهو رؤية أَديمِها نَغِلا، فالجواب: انه لو تُرِكنا والظاهرَ من غيرِ تقييد الظرف الثاني بمعنى آخر كان الحكمُ كما ذكرت؛ لأنه الظاهرُ كما ذكرت في مثالك: " ضربت زيداً يوم الجمعة ويوم السبت " أمَّا إذا قَيَّدْته بشي آخر فقد تُرك ذلك الظاهرُ لهذا النصِّ، ألا تراكَ تقول: " ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً يوم السبت " فكذلك هذا، وهو موضعٌ يحتاج لتأمل.

السابقالتالي
2