الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً }

قوله تعالى: { مِثْقَالَ ذَرَّةٍ }: فيه وجهان، أحدهما: أنه منصوب على أنه نعتٌ لمصدر محذوف أي: لا يَظْلم أحداً ظلماً وزنَ ذرة، فحذف المفعول والمصدر وأقام نعتَه مُقامه. ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجهَ قَدَّر قبله مضافاً محذوفاً قال: " تقديرُه: ظلماً قَدْرَ مثقالِ ذرة، فَحَذَفَ المصدرَ وصفته، وأقام المضافَ إليه مُقامهما ". ولا حاجة إلى ذلك لأنَّ المثقالَ نفسَه هو قَدْر من الأقدار، جُعِل معياراً لهذا القَدْر المخصوصِ. والثاني: أنه منصوب على أنه مفعول ثان لـ " يَظْلم " والأول محذوف، كأنهم ضَمَّنوا " بظلم " معنى " بغضب " و " بنقص " فَعَدَّوه لاثنين، والأصل: إنَّ الله لا يظلم أحداً مثقال ذرة.

قوله: { وَإِن تَكُ حَسَنَةً } حُذِفت النون تخفيفاً لكثرة الاستعمال، وهذه قاعدة كلية، وهو أنه يجوز حذفُ نون " يكون " مجزومةً، بشرطِ ألاَّ يليَها ضميرٌ متصل نحو: " لَم يَكُنْه " وألاَّ تُحَرَّك النون لالتقاء الساكنين نحو:لَمْ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [البينة: 1] خلافاً ليونس، فإنه أجاز ذلك مستدلاً بقوله:
1583ـ فإنْ لم تَكُ المِرْآةُ أَبْدَتْ وَسامةً     فقد أَبْدَتِ المرآةُ جَبْهَةَ ضَيْغَمِ
وهذا عند سيبويه ضرورةٌ، وإنما حُذفت النون لغُنَّتِها وسكونها فأشبهت الواو، وهذا بخلاف سائر الأفعال نحو: " لم يَضِنَّ " و " لم يَهُنْ " لكثرة استعمال " كان " ، وكان ينبغي أن تعود الواو عند حَذْفِ هذه النون؛ لأنها إنما حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين وقد زال ثانيهما وهو النونُ إلا أنها كالملفوظ بها.

وقرأ الجمهور " حسنةً " نصباً على خبر " كان " الناقصة، واسمها مستتر فيها يعود على " مثقال " وإنما أَنَّث ضميرَه حملاً على المعنى؛ لأنه بمعنى: وإنْ تكن زنةَ ذرة حسنة، أو لإِضافته إلى مؤنث فاكتسب منه التأنيث. وقرأ ابن كثير ونافع " حسنة " رفعاً على أنها التامة أي: وإنْ تقع أو توجد حسنة.

وقرأ ابن كثير وابن عامر: " يُضَعِّفْها " بالتضعيف، والباقون " يضاعفها ". قال أبو عبيدة: " ضاعفه " يقتضي مراراً كثيرة، و " ضَعَّفَ " يقتضي مرتين، وهذا عكسُ كلام العرب؛ لأن المضاعفة تقتضي زيادة المثل، فإذا شدَّدْتَ دَلَّت البُنْية على التكثير، فيقتضي ذلك تكرير المضاعفة بحسَبِ ما يكون من العدد. وقال الفارسي: " هما لغتان بمعنًى، يدل عليه قولُه { نُضَعِّفْ لَهَا ٱلْعَذَابَ ضِعْفَيْنِ } [الأحزاب: 30] { فَيُضَعِّفُهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [البقرة: 245] وقد تقدم لنا الكلام على هذا بأبسطَ منه هنا. وقرأ ابن هرمز: " نضاعِفْها " بالنون، وقرىء " يُضْعِفْها " بالتخفيف مِنْ أضعفه مثل أكرم.

قوله: { مِن لَّدُنْهُ } فيه وجهان، أحدهما: أنه متعلق بـ " يُؤْتِ " و " من " للابتداء مجازاً. والثاني: يتعلَّق بمحذوف على أنه حال من " أجراً " فإنه صفةُ نكرةٍ في الأصلِ قُدِّم عليها فانتصب حالاً.