الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً }

قوله تعالى: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ }: في " ما " هذه وجهان، أحدهما: أنها زائدةٌ بين الجار ومجروره تأكيداً، والثاني: أنها نكرة تامة، و " نقضِهم " بدلٌ منه، وهذا كما تقدَّم فيفَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } [آل عمران: 159]. و " نقض " مصدرٌ مضاف لفاعله، و " ميثاقهم " مفعوله، وفي متعلَّق الباءِ الجارةِ لـ " ما " هذه وجهان ، أحدهما: أنه " حَرَّمنا " المتأخر في قوله:فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا } [النساء: 160] وعلى هذا فيقال: " فبظلمٍ " متعلق بـ " حَرَّمنا " أيضاً فيلزم أن يتعلق حرفا جر متحدان لفظاً ومعنى بعامل واحد، وذلك لا يجوز إلا مع العطف أو البدل. وأجابوا عنه بأن قولَه " فبظلمٍٍ " بدل من قوله " فبما " بإعادة العامل. فيقال: لو كان بدلاً لما دخلت عليه فاء العطف؛ لأن البدل تابع بنفسِه من غير توسُّط حرف عطف. وأُجيب عنه بأنه لَمَّا طال الكلام بين البدل والمبدل منه أعادَ الفاء للطول، ذكر ذلك ابو البقاء والزجاج والزمخشري وأبو بكر وغيرهم.

وقد رَدَّه الشيخ بما معناه أن ذلك لايجوز لطول الفصل بين المبدل والبدل، وبأنَّ المعطوفَ على السبب سببٌ فيلزمُ تأخُّرُ بعض أجزاء السبب الذي للتحريم في الوقت عن وقت التحريم، فلا يمكن أن يكون سبباً أو جزءَ سببٍ إلا بتأويل بعيد، [وذلك أن قولهم: " إنَّا قتلنا المسيحَ " وقولهم على مريم] البهتانَ إنما كان بعد تحريم الطيبات. قال: " فالأَوْلى أن يكونَ التقدير: لعنَّاهم. وقد جاء مصرَّحاً به في قولِه: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ }.

والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف، فقَّدره ابنُ عطية لعنَّاهم وأَذْلَلْناهم وختمنا على قلوبهم. قال: " وحَذْفُ جوابِ مثلِ هذا الكلام بليغٌ " وتسميةُ مثل هذا " جواب " غيرُ معروف لغةً وصناعة. وقَدَّره أبو البقاء: " فبما نقضهم ميثاقهم طُبع على قلوبهم، أو لُعِنوا. وقيل: تقديرُه: فبما نقضِهم لا يؤمنون، والفاء زائدةٌ " انتهى. [وهذا الذي أجازه أبو البقاء تعرض له الزمخشري وردَّه فقال: " فإنْ قالت: فهلاَّ زَعَمْتَ أنًَّ المحذوف الذي تعلَّقَتْ به الباء] ما دل عليه قولُه " بل طَبَع اللَّهُ، فيكون التقديرُ: فبما نقضِهم طَبَع اللَّهُ على قلوبهم، بل طَبَع الله عليها بكفرهم ردُّ وإنكارٌ لقولهم: " قلوبُنا " غُلْفٌ " فكانَ متعلقاً به " قال الشيخ: " وهو جوابٌ حسنٌ، ويمتنع من وجهٍ آخرَ وهو أنَّ العطفَ بـ " بل " للإِضرابِ، والإِضرابُ إبطالٌ أو انتقالٌ، وفي كتابِ الله في الإِخبار لا يكون إلا للانتقال، ويُسْتفاد من الجملةِ الثانية ما لايُسْتفاد من الأولى، والذي قَدَّره الزمخشري لا يَسُوغ فيه الذي قررناه، لأنَّ قولَه: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ ٱللَّهِ وَقَتْلِهِمُ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ } هو مدلولُ الجملة التي صَحِبتها " بل " فأفادَتِ الثانية ما أفادت الأولى، ولو قلت: " مَرَّ زيد بعمرو، بل مَرَّ زيد بعمرو " لم يَجُزْ " وقَدَّره الزمخشري " فَعَلْنا بهم ما فعلنا ".

السابقالتالي
2