الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ }

وقوله: { لأَمْلأَنَّ }: جوابُ القسم. قال أبو البقاء: " إلاَّ أنَّ سيبويهِ يَدْفَعُه لأنه لا يُجَوِّزُ حَذْف حرفِ القسمِ إلاَّ مع اسم الله، ويكون قولُه: " والحقَّ أقولُ " معترضاً بين القسم وجوابِه ". قال الزمخشري: " كأنه قيل: ولا أقولُ إلاَّ الحقَّ " يعني أن تقديمَه المفعولَ أفاد الحصرَ. والمرادُ بالحق: إمَّا الباري تعالى كقوله:وَيَعْلَمُونَ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ٱلْمُبِينُ } [النور: 25] وإمَّا نقيضُ الباطل. والثاني: أنه منصوبٌ على الإِغراءِ أي: الزموا الحقَّ. والثالث: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ قولِه: " لأَمْلأَنَّ ". قال الفراء:/ " هو على معنى قولك: حقاً لا شكَّ، ووجودُ الألفِ واللام وطَرْحُهما سواءٌ أي: لأملأن جهنَّم حقاً " انتهى. وهذا لا يَتَمَشَّى على قولِ البصريين؛ فإنَّ شَرْطَ نَصْبِ المصدرِ المؤكِّد لمضمونِ الجملة أَنْ يكونَ بعد جملةٍ ابتدائية خبراها معرفتان جامدان جموداً مَحْضاً.

وجَوَّز ابنُ العِلْج أَنْ يكونَ الخبرُ نكرةً. وأيضاً فإنَّ المصدرَ المؤكِّدَ لا يجوزُ تقديمُه على الجملةِ المؤكِّدِ هو لمضمونِها. وهذا قد تقدَّم. وأمَّا الثاني فمنصوبٌ بـ " أقولُ " بعدَه. والجملةُ معترضةٌ كما تقدَّم. وجَوَّزَ الزمخشري أَنْ يكونَ منصوباً على التكرير، بمعنى أنَّ الأول والثاني كليهما منصوبان بـ أقولُ. وسيأتي إيضاحُ ذلك في عبارتِه.

وقرأ عاصم وحمزةُ برفعِ الأولِ ونصبِ الثاني. فَرَفْعُ الأولِ من أوجهٍ، أحدها: أنه مبتدأ، وخبرُه مضمرٌ تقديرُه: فالحقُّ مني، أو فالحقُّ أنا. الثاني: أنه مبتدأ، خبرُه " لأملأنَّ " قاله ابن عطية. قال: " لأنَّ المعنى: أنْ أَمْلأَ ". قال الشيخ: " وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ لأملأنَّ جوابُ قسمٍ. ويجب أَنْ يكونَ جملةً فلا تتقدَّرُ بمفردٍ. وأيضاً ليس مصدراً مقدراً بحرفٍ مصدري والفعل حتى يَنْحَلَّ إليهما، ولكنه لَمَّا صَحَّ له إسنادُ ما قَدَّرَ إلى المبتدأ حَكَمَ أنه خبرٌ عنه " قلت: وتأويلُ ابنِ عطيةَ صحيحٌ من حيث المعنى لا من حيث الصناعةُ.

الثالث: أنه مبتدأٌ، خبرُه مضمرٌ تقديرُه: فالحقُّ قَسَمي، و " لأملأنَّ " جوابُ القسم كقوله:لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الحجر: 72] ولكنَّ حَذْفَ الخبرِ هنا ليسَ بواجبٍ، لأنه ليس نصاً في اليمين بخلافِ لَعَمْرك. ومثلُه قولُ امرئ القيس:
3882 ـ فقلت يمينُ اللَّهِ أبْرَحُ قاعداً   ولو قطعوا رأسي لديكِ وأوصالي
وأمَّا نصبُ الثاني فبالفعل بعدَه. وقرأ ابنُ عباس ومجاهد والأعمش برفعهما. فرفْعُ الأولِ على ما تقدَّم، ورفعُ الثاني بالابتداءِ، وخبرُه الجملةُ بعده، والعائد محذوفٌ كقولهِ تعالى في قراءةِ ابنِ عامر: { وَكُلٌ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ } وقول أبي النجم:
3883 ـ قد أصبَحَتْ أمُّ الخيارِ تَدَّعي   عليَّ ذَنباً كلُّه لم أَصْنَعِ
ويجوز أَنْ يرتفعَ على التكريرِ عند الزمخشري وسيأتي. وقرأ الحسنُ وعيسى بجرِّهما.

السابقالتالي
2