الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ } * { وَلاَ ٱلظُّلُمَاتُ وَلاَ ٱلنُّورُ } * { وَلاَ ٱلظِّلُّ وَلاَ ٱلْحَرُورُ } * { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَحْيَآءُ وَلاَ ٱلأَمْوَاتُ إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي ٱلْقُبُورِ }

قوله: { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ }: استوى من الأفعال التي لا يُكْتَفَى فيها بواحدٍ لو قلت: " استوى زيدٌ " لم يَصِحَّ، فمِنْ ثَمَّ لَزِمَ العطفُ على الفاعلِ أو تعدُّدُه.

و " لا " في قوله: " ولا الظلماتُ " إلى آخره مكررةٌ لتأكيدِ النفيِ. وقال ابنُ عطية: " دخولُ " لا " إنما هو على نيةِ التَّكْرارِ، كأنه قال: ولا الظلماتُ والنورُ، ولا النورُ والظلماتُ، فاسْتُغْني بذِكْرِ الأوائل عن الثواني، ودَلَّ مذكورُ الكلامِ على مَتْروكِه ". قال الشيخ: " وهذا غير مُحْتاجٍ إليه؛ لأنه إذا نُفِي اسْتواؤُهما أولاً فأيُّ فائدةٍ في نَفْي اسْتوائِهما ثانياً " وهو كلامٌ حَسَنٌ إلاَّ أنَّ الشيخَ هنا قال: " فدخولُ " لا " في النفيِ لتأكيدِ معناه، كقوله:وَلاَ تَسْتَوِي ٱلْحَسَنَةُ وَلاَ ٱلسَّيِّئَةُ } [فصلت: 34]. قلت: وللناسِ في هذه الآيةِ قولان، أحدهما: ما ذُكِر. الثاني: أنها غيرُ مؤكِّدة؛ إذ يُراد بالحسنةِ الجنسُ، وكذلك " السيئة " فكلُّ واحدٍ منهما متفاوتٌ في جنسِه؛ لأنَّ الحسناتِ درجاتٌ متفاوتةٌ، وكذلك السَّيئاتُ، وسيأتي لك تحقيقُ هذا إنْ شاء اللَّهُ تعالى. فعلى هذا يمكنُ أَنْ يُقالَ بهذا هنا: وهو أنَّ المرادَ نَفْيُ استواءِ الظلماتِ ونَفْيُ استواءِ جنسِ النورِ، إلاَّ أنَّ هذا غيرُ مُرادً هنا في الظاهر، إذ المرادُ مقابَلَةُ هذه الأجناسِ بعضِها ببعضٍ لا مقابلةُ بعضِ أفرادِ كلِّ جنسٍ على حِدَتِه. ويُرَجِّح هذا الظاهرَ التصريحُ بهذا في قوله أولاً: { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ } حيث لم يُكرِّرْها. وهذا من المواضعِ الحسنةِ المفيدة.

والحَرُوْرُ: شدةُ حَرِّ الشمس. وقال الزمخشري: " الحَرورُ السَّمُوم، إلاَّ أنَّ السَّمومَ بالنهارِ، والحَرورَ فيه وفي الليل ". قلت: وهذا مذهبُ الفراءِ وغيرِه. وقيل: السَّمومُ بالنهار، والحَرورُ بالليل خاصةً، نقله ابنُ عطية عَن رؤبةَ. وقال: " ليس بصحيحٍ، بل الصحيحُ ما قاله الفراءُ ". وهذا عجيبٌ منه كيف يَرُدُّ على أصحاب اللسانِ بقولِ مَنْ يأخذُ عنهم؟ وقرأ الكسائي في روايةِ زاذانَ عنه " وَمَا تَسْتَوِي ٱلأَحْيَآءُ " بالتأنيث على معنى الجماعة.

وهذه الأشياءُ جيْءَ بها على سبيلِ الاستعارةِ والتمثيلِ، فالأعمى والبصيرُ، الكافرُ والمؤمنُ، والظلماتُ والنورُ، الكفرُ والإِيمان، والظلُّ والحَرورُ، الحقُّ والباطلُ، والأحياء والأمواتُ، لمَنْ دَخَل في الإِسلامِ لَمَّا ضَرَبَ الأعمى والبصيرَ مَثَلَيْن للكافرِ والمؤمنِ عَقَّبَه بما كلٌّ منها فيه، فالكافرُ في ظلمةٍ، والمؤمنُ في نورٍ؛ لأنَّ البصيرَ وإن كان حديدَ النظر لا بُدَّ له مِنْ ضوءٍ يُبْصِرُ به، وقَدَّم الأعمى لأنَّ البصيرَ فاصلةٌ فَحَسُنَ تأخيره، ولمَّا تقدَّم الأعمى في الذكر ناسَبَ تقديمَ ما هو فيه، فلذلك قُدِّمَتِ الظلمةُ على النور، ولأنَّ النورَ فاصلةٌ، ثم ذَكَر ما لكلٍّ منهما فللمؤمنِ الظلُّ وللكافرِ الحَرورُ، وأخّر الحرورَ لأجلِ الفاصلةِ كما تقدَّم.

السابقالتالي
2