الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ }

قوله: { أَمْ يَقُولُونَ }: هي المنقطعةُ، والإِضرابُ انتقالٌ لا إبطالٌ.

قوله: { بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ } إضرابٌ ثانٍ. ولو قيل بأنَّه إضرابُ إبطالٍ لنفسِ " افتراه " وحدَه لكان صواباً، وعلى هذا يُقال: كلُّ ما في القرآنِ إضرابٌ فهو انتقالٌ إلاَّ هذا، فإنه يجوزُ أَنْ يكونَ إبطالاً؛ لأنه إبطالٌ لقولِهم أي: ليس هو كما قالوا مفترى بل هو الحقُّ. وفي كلامِ الزمخشريِّ ما يُرْشِدُ إلى هذا فإنه قال: " والضميرُ في " فيه " راجعٌ إلى مضمونِ الجملة. كأنه قيل: لا ريبَ في ذلك، أي: في كونِه مِنْ رب العالمين. ويَشْهَدُ لِوجاهَتِه قولُه: { أَمْ يَقُولُونَ: ٱفْتَرَاهُ }؛ لأنَّ قولهم " هذا مفترى " إنكارٌ لأَنْ يكونَ مِنْ ربِّ العالمين، وكذلك قوله: { بَلْ هُوَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } وما فيه تقريرٌ أنه من عندِ الله. وهذا أسلوبٌ صحيحٌ مُحْكَمٌ ".

قوله: " مِنْ ربِّك " حالٌ من " الحقّ " والعاملُ فيه محذوفٌ على القاعدة، وهو العاملُ في " لِتُنْذِرَ " أيضاً، ويجوزُ أَنْ يكونَ العاملُ في " لتنذر " غيرَه أي: أنزله لِتنذِرَ.

قوله: { قَوْماً مَّآ أَتَاهُم } الظاهرُ أنَّ المفعولَ الثاني للإِنذار محذوفٌ. و " قوماً " هو الأولُ؛ إذ التقديرُ: لتنذِرَ قوماً العقابَ، و " ما أتاهم " جملةٌ منفيَّةٌ في محلِّ نصبٍ صفةً لـ " قوماً " يريد: الذين في الفترةِ بين عيسى ومحمدٍ عليهما السلام. وجعله الزمخشري كقوله:لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } [يس: 6] فعلى هذا يكونُ " مِنْ نذير " هو فاعلَ " أتاهم " و " مِنْ " مزيدةٌ فيه. و " مِنْ قبلِك " صفةٌ لنذير. ويجوزُ أَنْ تتعلَّقَ " مِنْ قبلك " بـ " أَتاهم ".

وجَوَّزَ الشيخُ أَنْ تكونَ " ما " موصولةً في الموضعين، والتقدير: لتنذِرَ قوماً العقابَ الذي أتاهم مِنْ نذيرٍ مِنْ قبلك. و " مِنْ نذير " متعلقٌ بـ " أَتاهم " أي: أتاهم على لسانِ نذيرٍ مِنْ قبلِك، وكذلكلِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ } [يس: 6] أي: العقابَ الذي أُنْذِرَه آباؤهم. فـ " ما " مفعولةٌ في الموضعين، و " لِتُنْذرَ " يتعدَّى إلى اثنين. قال تعالى:فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً } [فصلت: 13]. وهذا القولُ جارٍ على ظواهر القرآن. قال تعالى:وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [فاطر: 24]أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [المائدة: 19]. قلت: وهذا الذي قاله ظاهرٌ.

ويظهر أنَّ في الآية الأخرى وجهاً آخرَ: وهو أَنْ تكونَ " ما " مصدريةً تقديرُه: لتنذِرَ قوماً إنذاراً مثلَ إنذارِ آبائِهم؛ لأنَّ الرسلَ كلَّهم متفقون على كلمة الحق.