الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

قوله تعالى: { لِمَ تَصُدُّونَ }: " لِمَ " متعلقٌ بالفعلِ بعده، و " مَنْ آمن " مفعولٌ، وقولُه " يَبْغُونها " يجوز أن تكونَ جملةً مستأنفةً أَخْبَرَ عنهم بذلك، وأَنْ تَكونَ في محلِّ نصبٍ على الحال، وهو أظهرُ من الأول لأنَّ الجملةَ الاستفهاميةَ جِيء بعدها بجملةٍ حاليةٍ أيضاً وهي قوله: { وأنتم تَشْهَدون } فتتفقُ الجملتان في انتصابِ الحال عن كل منهما، ثم إذا قلنا بأنها حالٌ ففي صاحبِها احتمالان، أحدُهما: أنه فاعل " تَصُدُّون " ، والثاني: أنه " سبيل الله " وإنما جاز الوجهان لأن الجملةَ اشتملَتْ على ضميرِ كلٍّ منهما.

والعامة على " تَصُدُّون " بفتح التاء من صَدَّ يَصُدُّ ثلاثياً، ويستعمل لازماً ومتعدياً. وقرأ الحسن: " تُصِدُّون " بضمِّ التاء من أَصَدَّ مثل أَعَدَّ، ووجهُه أَنَّ يكونَ عَدَّى " صَدَّ " اللازم بالهمزة، قال ذو الرمة:
1362ـ أُناسٌ أَصَدُّوا الناسَ بالسيفِ عنهمُ     ...........................
و " عِوَجا " فيه وجهان، أحدُهما: أنه مفعولٌ به، وذلك أن يُراد تبغون: تَطْلُبون، قال الزجاج والطبري: " تطلبون لها اعوجاجاً، تقول العربُ: " ابغِني كذا " بوصلِ. الألف أي: اطلبه لي و " أَبْغني كذا " بقطع الألف أي: أَعِنِّي على طلبه، قال الأنباري: " البَغْيُ يُقْتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام كقولك: بَغَيْتُ المال والأجر والثواب، وههنا أريد: يبغون لها عوجاً، فلمَّا سَقَطَتِ اللامُ عَمِلَ الفعلُ فيما بعدَها كما قالوا: " وَهَبْتُك درهماً " يريدون: وَهَبْتُ لك، ومثلُه: " صُدْتُكَ ظَبْياً " أي: صُدْتُ لك، قال الشاعر:
1363ـ فَتَولَّى غلامُهمْ ثم نادَىٰ     أَظَلِيماً أَصِيدُكم أَمْ حِمارا
يريد: أَصِيدُ لكم ظَلِيماً ومثلُه: " جَنَيْتُكَ كَمْأَةً وجَنَيْتُك رُطَباً " والأصلُ: جَنَيْتُ لك، فَحَذَفَ ونَصَبَ ".

والثاني: أنه حالٌ من فاعل " يَبْغُونَها " وذلك أَنْ يُرادَ بـ " تَبْغُون " معنى تتعَدَّوْن، والبَغْيُ التعدِّي، والمعنى: تَبْغُون عليها أو فيها. قال الزجاج: " كأنه قال: تَبْغُونها ضالِّين ".

والعِوَج ـ بالكسر ـ والعَوَج ـ بالفتح ـ المَيْلُ، ولكنَّ العرب فَرَّقوا بينهما، فَخَصُّوا المكسورَ بالمعاني والمفتوحَ بالأعيانِ، تقول: في دينه وكلامِه عِوَجٌ ـ بالكسر ـ، وفي الجِدارِ عِوَجٌ ـ بالفتح ـ. قال أبو عبيدة: " العِوَج ـ بالكسر ـ المَيْلُ في الدين والكلام والعمل، وبالفتح في الحائط والجذع " وقال أبو إسحاق: " بالكسر فيما لا ترى له شخصاً، وبالفتح فيما له شخصٌ وقال صاحب " المجمل ":

" بالفتح في كلِّ منتصبٍ كالحائط، والعِوج ـ يعني بالكسر ـ ما كان في بساطٍ أو دين أو أرض أو معاش " فقد جعل الفرقَ بينهما بغير ما تقدم. وقال الراغب: " العِوَجُ: العَطْفُ عن حالِ الانتصاب، يقال: عُجْتُ البعيرَ بزِمامه، وفلان ما يَعُوجُ عن شيءٍ يَهُمُّ به أي يَرْجَع، والعَوَج ـ يعني بالفتح ـ/ يقال فيما يُدْرك بالبصر كالخشب المنتصِب ونحوه، والعِوَج يقال فيما يدرك بفكرٍ وبصيرة، كما يكون في أرض بسيطة عِوَج فيُعرف تفاوتُه بالبصيرة وكالدين والمعاش " قلت: وهذا قريبٌ من قول ابنِ فارس لأنه كثيراً ما يَأْخذ منه.

السابقالتالي
2