الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ وَٱلنَّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِٱلْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ }

قوله تعالى: { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ }: قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب " يأمركم " والباقون بالرفع، وأبو عمرو على أصلِهِ من جواز تسكين الراء والاختلاسِ، وهي قراءة واضحة سهلة التخريج والمعنى، وذلك أنها على القطع والاستئناف، أخبر تعالى بأن ذلك الأمرَ لا يقع. والفاعل فيه احتمالان، أحدهما: هو ضميرُ الله تعالى، والثاني هو ضميرُ " بَشَر " الموصوف بما تقدَّم، والمعنى على عَوْدِهِ على " بَشَر " أنه لا يقع مِنْ بشر موصوفٍ بما وُصِف به أَنْ يَجْعَلَ نفسَه رباً فيُعْبَدَ، ولا يأمر أيضاً أن تُعْبَدَ الملائكة والأنبياءُ من دون الله، فانتقى أن يدعوَ الناس إلى عبادة نفسه وإلى عبادة غيره. والمعنى على عَوْده على الله تعالى أنه أخبر أنه لم يأمر بذلك فانتفى أمر الله وأمر أنبيائه بعبادةِ غيره تعالى.

وأمَّا قراءةُ النصبِ ففيها [أوجه،] أحدُها: قول أبي علي وغيره، وهو أن يكونَ المعنى: ولا له أن يأمرَكم، فقدَّروا " أَنْ " تُضْمر بعد " لا " وتكون " لا " مؤكِّدةً لمعنى النفي السابق كما تقول: " ما كان من زيد إتيانٌ ولا قيام " وأنت تريدُ انتفاءَ كلِّ واحدٍ منهما عن زيد، فلا للتوكيد لمعنى النفي السابق/، وبقي معنى الكلام: ما كانَ من زيدٍ إتيانٌ ولا منه قيام.

الثاني: أن يكونَ نصبُه لنسقِهِ على " يُؤْتِيَه " قال سيبويه: " والمعنى: وما كان لبشرٍ أن يأمركم أن تتخذوا الملائكة ". قال الواحدي: " ويُقَوِّي هذا الوجه ما ذكرنا أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: أتريد يا محمد أن نتَّخذك رباً فَنَزَلَت ".

الثالث: أن يكونَ معطوفاً على " يقول " في قراءة العامة قاله الطبري. قال ابن عطية: " وهذا خطأٌ لا يلتئم به المعنى " ولم ييبِّنْ أبو محمد وجهَ الخطأ ولا عدمَ التئام المعنى. قال الشيخ: " وجهة الخطأ أنه إذا كان معطوفاً على " يقول " وجَعَل " لا " للنفي على سبيل التأسيس لا على سبيل التأكيد فلا يمكن أن يقدِّر الناصبَ وهو " أنْ " إلا قبل " لا " النافية، وإذا قَدَّرها قبلها انسبك منها ومن الفعل المنفي بـ " لا " مصدر منفيٌّ، فيصير المعنى: ما كان لبشرٍ موصوفٍ بما وُصف به انتفاءُ أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، وإذا لم يكن له انتفاءُ الأمر بذلك كان له ثبوت الأمر بذلك، وهو خطأٌ بيِّن. أمَّا إذا جَعَل " لا " لتأكيد النفي لا لتأسيسه فلا يلزم خطأ ولا عدم التئام المعنى، وذلك أنه يصير النفي منسحباً على المصدرين المُقَدَّرِ ثبوتُهما فينتفي قولُه { كُونُواْ عِبَاداً لِّي } وينتفي أيضاً أمرُه باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً، ويوضِّح هذا المعنى وضعُ " غير " موضعَ " لا " فإذا قلت: " ما لزيد فقهُ ولا نحوٌ " كانت " لا " لتأكيد النفي وانتفى عنه الوصفان، ولو جعلت " لا " لتأسيس النفي كانت بمعنى غير، فيصير المعنى انتفاء الفقه عن وثبوتَ النحو له، إذ لو قلت: " ما لزيد فقه وغيرُ نحو " كانَ في ذلك إثبات النحو له، كأنك قلت: ما له غيرُ نحو، ألا ترى أنك إذا قلت: " جئتُ بلا زادٍ " كان المعنى جئت بغير زادٍ، وإذا قلت: " ما جئت بغير زادٍ " معناه أنك جِئت بزاد، لأنَّ " لا " هنا لتأسيس النفي، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدمَ التئام المعنى إنما يكون على أحد التقديرين، وهو أن تكون " لا " لتأسيس النفي لا لتأكيده، وأن يكون من عطف المنفي بلا على المثبت الداخل عليه النفيُ نحو: ما أريد أن تجهل وأن لا تتعلم تريد: ما أريدُ أَنْ لا تتعلم " انتهى.

السابقالتالي
2 3