الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ ٱللَّهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ ٱلْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ }

قوله تعالى: { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ }: " أَنْ يؤتيَه " اسمُ كان و " لبشر " خبرُها. وقوله: { ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ } عطفٌ على " يؤتيه " ، وهذا العطفُ لازمٌ من حيث المعنى، إذ لو سكت عنه لم يَصِحَّ المعنى، لأنَّ الله تعالى قد أتى كثيرا من البشر الكتابَ والحكم والنبوة، وهذا كما يقولون في بعض الأحوال والمفاعيل: إنها لازمة، فلا غرو أيضاً في لزوم المعطوف، وإما بَيَّنْتُ لك هذا لأجل قراءةٍ سأذكرها. ومعنى مجيء هذ النفيَ في كلام العرب نحو: " ما كان لزيد أن يفعل " ونحوه نفيُ الكونِ والمرادُ نفيُ خبرِه، وهو على قسمين: قسمٍ يكونُ النفي فيه من جهة الفعل، ويُعَبَّر عنه بالنفي التام نحو هذه الآية، لأنَّ الله تعالى لا يُعْطي الكتابَ والحكم والنبوة لمَنْ يقولُ هذه المقالةَ الشنعاء، ونحوُه:مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } [النمل: 60]وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } [آل عمران: 145]، وقسمٍ يكونُ النفي فيه على سبيل الانتقاء كقول أبي بكر " ما كان لابن أبي قحافة أن يقدَّم فيصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، ويُعْرَفُ القسمانِ من السياق.

وقرأ العامة: " يقول " بالنصب نسقاً على " يؤتيه " ، وقرأ ابن كثير في رواية شبل بن عباد، وأبو عمرو في رواية محبوب: " يقول " بالرفع، وخرَّجوها على القطع والاستئناف، وهو مشكلٌ لِما قَدَّمته من أن المعنى على لزومِ ذكر هذا المعطوف، إذ لا يستقِلّ ما قبله لفساد المعنى فيكون يقولون على القَطع والاستئناف؟/

قوله: { عِبَاداً } قال ابن عطية: " ومِنْ جموعه عبيد وعِبِدَّى. قال بعض اللغويين: هذه الجموعُ كلها بمعنى، وقال بعضُهم: العِباد لله، والعبيد والعِبِدّى للبشر، وقال بعضهم: العِبِدَّى إنما يقال في العبد من العبيد كأنه مبالغةٌ تقتضي الإِغراق في العبودية، والذي استقريت في لفظ العباد أنه جمع " عبد " متى سيقت اللفظة في مضمار الترفُّع والدلالة على الطاعة دونَ أَنْ يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن، وانظر قوله:وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ } [البقرة: 207] وعِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [الأنبياء: 26] ويٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ } [الزمر: 53]، وقولَ عيسى في معنى الشفاعة والتعريض:إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } [المائدة: 118]، وأمَّا العبيد فيستعمل في تحقيره، ومنه قول امرىء القيس:
1346ـ قولا لدودانَ عبيدِ العَصا     ما غَرَّكم بالأسدِ الباسلِ
وقال حمزة بن عبد المطلب: " وهل أنتم إلا عبيدٌ لأبي " ، ومنه:وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [فصلت: 46] لأنه مكان تشفيقٍ وإعلامٍ بقلة انتصارهم ومَقدِرتهم، وأنه تعالى ليس بظلامٍ لهم مع ذلك، ولما كانت لفظةُ العباد تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك أَنِس بها في قوله تعالى:

السابقالتالي
2 3 4