الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

قوله تعالى: { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ }: في هذه اللام وجهان، أحدهما: أنها زائدةٌ مؤكدةٌ، كهي في قوله تعالى:رَدِفَ لَكُم } [النمل: 72] أي: رَدِفَكم، وقول الآخر:
1332ـ فَلَمَّا أَنْ تواقَفْنَا قليلاً     أَنَخْنا للكلاكِلِ فارتَمَيْنَا
وقول الآخر:
1333ـ ما كنتُ أخدَعُ للخليلِ بخُلَّةٍ     حتى يكونَ لِيَ الخليلُ خَدُوعا
أي: أَنَخْنَا الكلاكل، وأَخْدَعُ الخليلَ، ومثلُه:
1334ـ يَذُمُّونَ للدنيا وهم يَرْضِعُونَها   أَفاويقَ حتى ما يَدِرُّ لها ثَعْلُ
يريد: يَذُمُّون الدنيا، ويروي " بالدنيا " بالباء، وأظن البيت: " يَذُمُّونَ لي الدنيا " فاشتَبَه اللفظُ على السامعِ، وكذا رأيتُه في بعضِ التفاسيرِ، وهذا ليس بقويٍ.

والثاني: أنَّ " أَمِنَ " ضُمِّنَ معنى أَقَرَّ واعترَفَ، فَعُدِّي باللام أي: ولا تُقِرُّوا ولا تَعْتَرِفوا إلا لِمَنْ تَبعَ دينكم، ونحوُه:فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ } [يونس: 83]وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [يوسف: 17]. وقال أبو علي: " وقد تعدَّى " آمَن " باللام في قولِهِ: { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَىٰ }آمَنتُمْ لَهُ } [طه: 71]يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [التوبة: 61] فذَكَرَ أنه يتعدَّى بها من غيرِ تضمين./ والصوابُ ما قَدَّمْتُه من التضمينِ، وقد حَقَقْتُ هذا أولَ البقرة.

وهذا اسثناءٌ مفرغ، وقال أبو البقاء: " إلاَّ لِمَنْ تَبع " فيه وجهان، أحدُهما: أنه استثناءٌ مِمَّا قبلَه، والتقديرُ: ولا تُقِرُّوا إلا لِمَنْ تَبع " فعلى هذا اللامُ غيرُ زائدةٍ، ويجوزُ أَنْ تكونَ زائدةً، ويكون محمولاً على المعنى أي: اجْحَدُوا كلَّ أحدٍ مَنْ تَبعَ، والثاني: أنَّ النيةَ به التأخيرُ والتقديرُ: ولا تُصَدِّقوا أنْ يؤتَى أحَدٌ مثلَ ما أُوتيتم إلا مَنْ تَبع دينَكم، فاللامُ على هذا زائدَةٌ، و " مَنْ " في موضِعِ نصبٍ على الاستثناء من " أحد ".

وقال الفارسي: " الإِيمانُ لا يتعدَّى إلى مفعولين فلا يتعلَّقُ أيضاً بجارَّيْن، وقد تُعَلَّق بالجارّ المحذوفِ مِنْ قولِهِ: { أَن يُؤْتَىۤ } فلا يتعلَّقُ باللامِ في قوله: { لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } إلا أَنْ يُحمل الإِيمانُ على معناه، فيتعدَّى إلى مفعولين، ويكونُ المعنى: " ولا تُقِرُّوا بأَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتم إلا لمَنْ تَبعَ دينكم كما تقولُ: أَقْرَرَتُ لزيدٍ بألف، فتكونُ اللامُ متعلقةً بالمعنى، ولا تكونُ زائدةً على حدِّرَدِفَ لَكُم } [النمل: 72]إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [يوسف: 43]. قلت: فهذا تصريحٌ من أبي علي بأنه ضُمِّنَ آمَنَ معنى أَقَرَّ.

قوله: { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ } اعلم أنَّ في هذه الآية كلاماً كثيراً لا بد من إيرادِهِ عن قائليهِ ليتضحَ ذلك، فأقولُ وباللهِ العون: اختلفَ الناس في هذه الآيةِ على [وجوهٍ:] أحدُها: أنْ يكونَ { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ } متعلِّقاً بقوله: { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ } على حذف حرفِ الجر، والأصلُ: " ولاتؤمنوا بأَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا لِمَنْ تَبعَ دينَكم " فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجَرِّ جرى الخلاف المشهورُ بين الخليل وسيبويه في محل " أَنْ " ، ويكونُ قولُهُ: { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } جملةً اعتراضيةً، قال الزمخشري في تقريرِ هذا الوجهِ وبه بدأ: " ولا تُؤْمِنُوا متعلِّقٌ بقولِهِ: " أَنْ يُؤْتَى أحد " ، وما بينهما اعتراضٌ أي: " ولا تُظْهِرُوا إيمانكم بأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دونَ غيرِهم، أرادوا: أسِرُّوا تصديقَكم بأنَّ المسلمين قد أُوتوا مثلَ ما أوتيتم ولا تُفْشُوه إلا لأشياعِكم وحدَهم دونَ المسلمين، لئلا يَزيدَهم ثباتاً، ودونَ المشركين لئلا يَدْعُوهم إلى الإِسلام، أو يُحاجُّوكم عطفٌ على " أَنْ يُؤْتَى ".

السابقالتالي
2 3 4 5 6