الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

قوله تعالى: { لِمَ تَلْبِسُونَ }: قرأ العامة بكسر الباء من لَبَس عليه يَلْبِسُه أي خلطه. وقرأ يحيى بن وثاب بفتحها جعله من لَبِسْت الثوب أَلْبَسُه على جهة المجاز، وقرأ أبو مجلز: " تُلبِّسُون " بضم التاءِ وكسر الباء وتشديدها من لَبَّس بالتشديد ومعناه التكثير. والباء في " بالباطل " للحال أي: ملتسباً بالباطل.

قوله: { وَتَكْتُمُونَ ٱلْحَقَّ } جملةٌ مستأنفة، ولذلك لم يَنْتَصِبْ بإضمار أَنْ في جواب الاستفهام، وقد أجاز الزجاج من البصريين، والفراء من الكوفيين فيه النصبَ من حيث العربيةُ، فتسقطُ النون، فينتصِبُ على الصرف عند الكوفيين، وبإضمار أَنْ عند البصريين، وقد مَنَع ذلك أبو علي الفارسي وأَنْكره، وقال: " الاستفهامُ واقعٌ على اللَّبْسِ فَحَسْب، وأما " تكتمُون " فخبرٌ حتم لا يجوز فيه إلا الرفعُ " ، يعني أنه ليس معطوفاً على " تَلْبِسون " بل هو استئناف، خَبَّر عنهم أنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق. ونقل أبو محمد بن عطية عن أبي عليّ أنه قال أيضاً: " الصرف ههنا يَقْبُح، وكذلك إضمارُ " أَنْ " ، لأن " يكتمون " معطوف على موجب مقدر وليس بمستفهم عنه، وإنما استَفْهم عن السبب في اللبس، واللَّبْس موجب، فليست الآيةُ بمنزلةِ قولهم: " لا تأكلِ السمكَ وتَشْرَب اللبن " وبمنزلةِ قولك: " أتقومُ فأقومَ " والعطفُ على الموجب المقرَّر قبيح متى نُصِب، إلا في ضرورةِ شعر كما رُوِي:
1328ـ............................   وأَلْحَـقُ بالحجـازِ فاستريحــا
وقد قال سيبويه في قولك: " أَسِرْتَ حتى تَدخُلَها؟ " لا يجوز إلا النصبُ في " تدخل " لأن السير مُسْتَفْهَمٌ عنه غيرُ موجَبٍ " ، وإذا قلنا: " أيُّهم سار حتى يدخُلها؟ رَفَعْتَ لأن السيرَ موجب والاستفهامُ إنما وقع عن غيره ".

قال الشيخ: وظاهرُ هذا النقلِ عنه معارضتُه لِما نُقل عنه قبله، لأنَّ ما قبلَه فيه أنَّ الاستفهامَ وَقَعَ عن اللَّبْسِ فحسب، وأمَّا " يكتُمون " فخبر حتم لا يجوزُ فيه إلا الرفع، وفيما نقله ابن عطية أنَّ " يكتمون " معطوفٌ على موجبٍ مقدَّرٍ وليس بمستفهم عنه، فيدُلُّ العطف على اشتراكهما في الاستفهامِ عن سبب اللَّبْس وسبب الكتم الموجبين، وفَرْقٌ بين هذا المعنى وبين أن يكون " يكتمون " إخباراً مَحْضاً لم يشترك مع اللَّبْس في السؤال عن السبب، وهذا الذي ذهبَ إليه أبو عليّ من أنَّ الاستفهامَ إذا تَضَمَّن وقوعَ الفعلِ لا ينتصب الفعلُ بإضمار " أَنْ " في جوابه تبعه في ذلك جمال الدين بن مالك، فقال في " تسهيلِه ": " أو لاستفهامٍ لا يتضمَّنُ وقوعَ الفعل " فإنْ تضمَّن وقوعَ الفعل امتنع النصبُ عندَه نحو: " لِمَ ضربْتَ زيداً فيجاريك " لأنَّ الضربَ قد وقع.

السابقالتالي
2