الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }

قوله تعالى: { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ }: جملةٌ مستأنفةٌ لا تعلُّقَ لها بما قبلها تعلُّقاً صناعياً بل معنوياً، وزعم بعضُهم أنَّها جوابٌ لقسم، وذلك القسمُ هو قولُه: { وَٱلذِّكْرِ ٱلْحَكِيمِ } كأنه قيل: أٌقْسم بالذكرِ الحكيم إِنَّ مثلَ عيسى، فيكونُ الكلامُ قد تَمَّ عند قولِه: " من الآيات " ثم استأنف قسماً، فالواوُ حرفُ جر لا حرفُ عطف، وهذا بعيدٌ أو ممتنعٌ، إذ فيه تفكيكٌ لنظمِ القرآن وإذهابٌ لرونقه وفصاحته.

قوله: { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ } في هذه الجملة وجهان، أظهرهما: أنها مفسرةٌ لوجهِ التشبيه بين المَثَلين، فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب. والثاني: أنها في محل نصب على الحال من آدمَ عليه السلام و " قد " معه مقدرةٌ، والعاملُ فيها معنى التشبيه، والهاءُ في " خَلَقه " عائدةٌ على آدم، ولا تعودُ على عيسى لفسادِ المعنى، وقال ابن عطية: " ولا يجوزُ أن يكون " خلقه " صلةً لآدم ولا حالاً منه،/ قال الزجاج: " إذ الماضي لا يكونُ حالاً أنت فيها، بل هو كلامٌ مقطوعٌ منه مُضَمَّنٌ تفسيرَ الشأن " قال الشيخ: " وفيه نظرٌ " ، ولم يُبَيِّنْ وجهَ النظرِ، والظاهرُ من هذا النظرِ أنَّ الاعتراضَ وهو قولُه: " لا يكون حالاً أنت فيها " غيرُ لازم، إذ تقديرُ " قد " معه يقرِّبُه من الحال، وقد يَظْهَرُ الجواب عَمَّا قاله الزجاج من قول الزمخشري: " إنَّ المعنى: قَدَّره جسداً من طين ثم قال له: كن، أي أَنْشَأه بشراً ". قال الشيخ: " ولو كان الخَلْقُ بمعنى الإِنشاء لا بمعنى التقديرِ لم يأتِ بقولِه " كن " لأنَّ ما خُلِقَ لا يقال له: كُنْ، ولا يُنْشَأُ إلا إنْ كان معنى " ثم قال له كن " عبارةً عن نَفْخِ الروح فيه. " قلت: قد تعرَّض الواحدي لهذه المسألة فَأَتْقَنها فقال: " وهذا ـ يعني قوله خلقه من تراب ـ ليس بصلةٍ لآدم ولا صفةٍ، لأنَّ الصلة للمبهمات والصفةً للنكرات ولكنه خبرٌ مستأنفٌ على جهةِ التفسير لحالِ آدَمَ عليه السلام " قال: " قال الزجاج " وهذا كما تقولُ في الكلام: " مَثَلُك كمثلِ زيد " تريد أنك تُشْبهه في فِعْلٍ ثم تخبرُ بقصة زيد، فتقول: فعل كذا وكذا ".

وقوله: { كُن فَيَكُونُ } اختلفوا في المقولِ له: كن، فالأكثرون على أنه آدم عليه السلام، وعلى هذا يقعُ الإِشكال في لفظ الآية، لأنه إنما يقول له: " كن " قبل أن يخلقَه لا بعده، وههنا يقولُ: " خَلَقه " ثم قال له: كن، والجواب: أنَّ الله تعالى أخبرَنا أولاً أنه خَلَقَ آدمَ مِنْ غيرِ ذَكَرٍ ولا أنثى، ثم ابتدأَ خبراً آخرَ، أرادَ أَنْ يُخْبِرَنا به فقال: إني مخبرُكم أيضاً بعد خبري الأول أني قلت له: " كن " فكان، فجاء بثم لمعنى الخبرِ الذي تقدَّم والخبر الذي تأخر في الذكر، لأنَّ الخَلْقَ تقدَّم على قولِه " كن " ، وهذا كما تقول: " أُخْبِرُك أني أُعطيك اليوم ألفاً، ثم أُخبرك أني أعطتيك أمسِ قبلَه ألفاً " فأمس متقدِّمَ على اليوم، وإنما جاء بثم لأنَّ خبرَ اليوم متقدِّمٌ خبرَ أمسِ، وجاءَ خبرُ أمس بعد مُضِيِّ خبر اليوم، ومثله قوله:

السابقالتالي
2 3