الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }

قوله تعالى: { وَرَسُولاً }: في " رسول " وجهان، أحدُهما: أنه صفةٌ بمعنى مُرْسَل فهو صفةٌ على فُعُول كالصبور والشكور. والثاني: أنه في الأصلِ مصدرٌ، ومن مجيءِ " رسول " مصدراً قولُه:
1291ـ لقد كَذَبَ الواشُون ما بُحْتُ عندَهم     بِسِرٍّ ولا أَرْسَلْتُهمْ برسولِ
أي: برسالة، وقال آخر:
1292ـ أُبَلِّغْ أبا سلمى رسولاً تَرُوعه     .........................
أي: أُبَلِّغُه رسالةً، ومنه قولُه تعالى:إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء: 16] على أحدِ التأولين، أي: إنَّا ذوا رسالةِ رب العالمين، وعلى الوجهين يترتَّبُ الكلامُ في إعراب " رسول ":

فعلى الأولِ يكونُ في نصبهِ ستةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ معطوفاً على " يُعَلِّمه " إذا أعربناه حالاً معطوفاً على " وجيهاً " إذ التقديرُ: وجيها ومُعَلِّماً ومُرْسَلاً، قاله الزمخشري وابن عطية. قال الشيخ: " وهو مَبْنِيٌّ على إعراب " ويُعَلِّمه " ، وقد بَيَّنَّا ضعفَ إعرابِ مَنْ يقولُ إنَّ " ويُعَلِّمه " معطوفٌ على " وجيهاً " للفصلِ المُفْرِطِ بين المتعاطِفَيْن ".

الثاني: أن يكونَ نسقاً على " كَهْلاً " الذي هو حالٌ من الضميرِ المستتر في " ويُكَلِّم " أي: يُكَلِّم الناسَ طفلاً وكهلاً ومُرْسَلاً إلى بني إسرائيل، جَوَّز ذلك ابنُ عطية. واستبعده الشيخُ لطولِ الفصلِ بين المعطوف والمعطوف عليه. قلت: ويظهرُ أن ذلك لا يجوز من حيث المعنى، إذ يصيرُ التقديرُ: يُكَلِّمُ الناسَ في حالِ كونِه رسولاً إليهم، وهو إنما صار رسولاً بعد ذلك بأزمنةٍ، فإن قيل: هي حالٌ مقدَّرة كقولهم: " مررت برجل معه صقرٌ صائداً به غداً " وقوله:فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [الزمر: 73]، قيل: الأصلُ في الحالِ أن تكونَ مقارنةً، ولا تكونُ مقدرةً إلا حيث لا لَبْسَ.

الثالث: أن يكونَ منصوباً بفعلٍ مضمرٍ لائقٍ بالمعنى، تقديرُه: ونجعلُه رسولاً، لَمَّا رأَوه لا يَصِحُّ عَطْفُه على مفاعيلِ التعليم أضمروا له عاملاً يناسبه، وهذا كما قالوا في قوله تعالى:وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ } [الحشر: 9] وقوله:
1293ـ يا ليـتَ زوجَـك قـد غـدا   متقلِّــداً سيفـــاً ورمحـــا
وقول الآخر:
1294ـ عَلَفْتُها تِبْناً وماءً باردا   .......................
وقوله:
1295ـ....................     وزَجَّجْـنَ الحواجـبَ والعُيـونــا
أي: واعتقدوا الإِيمانَ، ومعتقلاً رمحاً، وسَقَيْتُها ماءً بارداً، وكَحَّلْنَ العيونَ، وهذا على أحدِ التأويلين في هذه الأمثلةِ.

الرابع: أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ من لفظِ " رسول " ، ويكون ذلك الفعلُ معمولاً لقولٍ مضمر أيضاً هو من قولِ عيسى.

الخامس: أنَّ الرسولَ فيه معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم. ويُوَضِّح هذين الوجهين الأخيرين ما قاله الزمخشري، قاله رحمه الله: " فإن قلت: علامَ تَحْمِلُ " ورسولاً ومصدقاً " من المنصوبات المتقدمة، وقوله: { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ } و { لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ } يأبى حَمْلَه عليها؟ قلت: هو من المُضايِق، وفيه وجهان، أحدهما: أن تُضْمِرَ له " وأُرْسِلْتُ " على إرادة القول، تقديرُه: ويُعَلِّمه الكتابَ والحكمة ويقول: أُرْسِلْتُ رسولاً باني قد جئتكم ومُصَدِّقاً لِما بين يديَّ.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8