الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ }

قوله تعالى: { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ }: في هذا الظرفِ أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ منصوباً بيختصمون. الثاني: أنه بدلٌ من " إذ يختصمون " وهو قولُ الزجاج. وفي هذين الوجهين بُعْدٌ، من حيثُ إنه يلزمُ اتحادُ زمانِ الاختصامِ وزمانِ قولِ الكلام، ولم يَكُنْ ذلك لأنَّ وقتَ الاختصامِ كان صغيراً جداً ووقتَ قولِ الملائكةِ بعد ذلك بأحيانٍ. وقد اسْتَشْعَرَ الزمخشري هذا السؤالَ فأجابَ بأنَّ الاختصامَ والبِشَارةَ وقعا في زمان واسعٍ كما تقول: " لَقِيتُهُ سنةَ كذا " يعني أنَّ اللقاء إنما يقع في بعض السنةِ فكذا هذا. الثالث: أن يكونَ بدلاً من " إذ قالت الملائكة " أولاً، وبه بدأَ الزمخشري كالمختارِ له، وفيه بُعْدٌ لكثرةِ الفاصلِ بين البدلِ والمُبْدَلِ منه. الرابع: نصبُه بإضمارِ فعلٍ.

والوَحْيُ: الإِشارةُ السريعةُ، ولتضمُّنِ السرعةِ قيل: " أمرٌ وَحْيٌ " وقيل: إلقاءُ معنى الكلام إلى مَنْ يريدُ إعلامَهُ، والوحيُ يكونُ بالرمز والإِشارة قال:
1280ـ لأوْحَتْ إلينا والأنامِلُ رُسْلُهـا     ...........................
وقولُه تعالى: { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ } أي: أشارَ إليهم، ويكون بالكتابَةِ، قال زهير:
1281ـ أتى العُجْمَ والآفاقَ منه قصائدٌ    بَقَيْنَ بقاءَ الوَحْي في الحَجَر الأَصَمِّ
ويُطْلَقُ الوَحْيُ على الشيءِ المكتوبِ، قال:
1282ـ فَمَدافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّي رَسْمُها   خَلَقاً كما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
قيل: الوُحِيُّ جمعُ: وَحْي كَفَلْس وفُلُوس، وكُسِرَت الحاءُ إتباعاً. والوَحْيُ: الإِلهامُ:وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } [النحل: 68]، والوَحي للرسل يكون بأنواع مذكورةٍ في التفسير.

قوله: { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } في محلِّ جرٍ صفةً لكلمة، والمرادُ بالكلمة هنا عيسى، وسُمِّيَ كلمةً لوجودهِ بها وهو قوله: { كُنْ فَيَكُونُ } فهو من باب إطلاق السبب على المُسَبَّب. و " اسمه " مبتدأ، و " المسيح " خبرُهُ. و " عيسى " بدلٌ منه أو عطفُ بيان. قال أبو البقاء: " ولا يكونُ خبراً ثانياً لأنَّ تَعَدُّدُ الأخبارِ يُوجِبُ تعَدُّدَ المبتدأ، والمبتدأُ هنا مفردٌ، وهو قولُه: " اسمهُ " ولو كان عيسى خبراً آخر لكان أسماؤه أو أسماؤها على تأنيث الكلمة " قلت: هذا على رأي، وأما من يجيز ذلك فقد أعرب عيسى خبراً ثانياً، وأعرَبه بعضُهم خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هو عيسى، فهذه ثلاثةُ أوجهٍ في " عيسى " ، ويجوز على الوجهِ الثالث وجهٌ رابعٌ وهو النصبُ بإضمار " أَعْني " لأنَّ كلَّ ما جازَ قَطْعُهُ رَفْعاً جازَ قطعُهُ نصباً.

والألفُ واللامُ في " المسيح " للغلبَةِ كهي في الصَّعِق والعَيُّوق وفيه وجهان، أحدُهما: أنه فَعِيل بمعنى فاعِل مُحَوّل منه مبالغة، فقيل: لأنه مَسَحَ الأرض بالسِّياحة، وقيل: لأنه يَمْسَح ذا العاهة فيبرأُ، وقيل: بمعنى مَفْعول لأنه مُسِحَ بالبركةِ أو لأنه مَسِيحُ القدمِ، قال:
1283ـ بـاتَ يُقاسيهـا غــلامٌ كالزَلَــمْ     خَدَلَّجُ الساقَيْنِ ممسوحُ القَدَمْ
أو لِمَسْحِ وجهِهِ بالمَلاحة، قال:
1284ـ على وَجْهِ مَيٍّ مَسْحَةٌ من مَلاحة   ............................

السابقالتالي
2 3