الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ }

قوله تعالى: { ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً } يجوزْ أن يكونَ الجَعْلُ بمعنى التصيير فيتعدَّى لاثنينِ أوَّلهما " آية " والثاني: الجارُّ قبلَه. والتقديمُ هنا واجبٌ، لأنه لا مُسَوِّغ للابتداء بهذه النكرة وهي " آية " / لو انحلَّتْ إلى مبتدأ وخبر إلا تقدُّمُ هذا الجارِّ، وحكمُهما بعد دخول الناسخِ حكمُهما قبلَه، والتقديرُ: صَيِّرْ آيةً من الآياتِ لي. ويجوز أَنْ يكونَ بمعنى الخَلَقْ والاتِّخاذ أي: اخلُقْ لي آيةً فتعدَّى لواحدٍ، وفي " لي " على هذا وجهان، أحدُهما: أن يتعلَّقَ بالجَعْلِ، والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من " آية " لأنه لو تأخر لجازَ أن يقعَ صفةً لها، ويجوزُ أن يكونَ للبيانِ. وحَرَّك الياءَ بالفتح نافع وأبو عمرو، وأسكنها الباقون.

قوله: { أَلاَّ تُكَلِّمَ } أَنْ وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ خبراً لقوله: " آيتُك " أي: آيتُك عدمُ كلامِك للناس. والجمهورُ على نصبِ " تُكَلِّم " بأَنْ المصدريةِ. وقرأ ابن أبي عبلة برفعِه، وفيه وجهان، أحدهما: أن تكونَ " أَنْ " مخففةً من الثقيلةِ، واسمُها حينئذٍ ضميرُ شأنٍ محذوفٍ، والجملةُ المنفيَّةُ بعدَها في محلِّ رفع خبراً لـ " أَنْ " ، ومثلُه:أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ } [طه: 89]وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [المائدة: 71]، ووقعَ الفاصلُ بين أَنْ والفعلِ الواقعِ خبَرَها بحرف نفي، ولكنْ يُضْعِفُ كونَها مخففةً عدمُ وقوعِها بعد فعلِ يقين. الثاني: أَنْ تكونَ الناصبَةُ حُمِلَتْ على " ما " أختِها، ومثلُه:لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ } [البقرة: 233]، وأَنْ وما في حَيِّزها أيضاً في محلِّ رفعٍ خبراً لـ " آيتُك ".

قوله تعالى: { ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ } الصحيحُ أنَّ هذا النحوَ ـ وهو ما كان من الأزمنة يستغرقُ جميعُه الحدثَ الواقعَ فيه ـ منصوبٌ على الظرفِ خلافاً للكوفيين فإنَّهم يَنْصِبونه نصبَ المفعولِ به، وقيل: " وثَمَّ معطوفٌ محذوفٌ تقديرُه: ثلاثةَ أيام وليالِيها، فحُذِفَ كقولِه تعالى:تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ } [النحل: 81] ونظائِره، يَدُلُّ على ذلك قولُه في سورة مريم:ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } [مريم: 10]، وقد يُقَال: إنَّه يُؤْخَذُ المجموعُ من المجموعِ فلا حاجةَ إلى ادَّعاءِ حَذفٍ، فإنَّا على هذا التقديرِ الذي ذكرتموه نَحْتاجَ إلى تقديرِ معطوفٍ في. الآية الأخرى تقديرُه: ثلاثَ ليالٍ وأيامَها.

قوله: { إِلاَّ رَمْزاً } فيه وجهان، أحدُهما: أنه استثناءٌ منقطع لأنَّ الرمزَ ليس من جنسِ الكلام، إذ الرمز: الإِشارةُ بعينٍ أو حاجبٍ، أو نحوهما، ولم يَذْكُر أبو البقاء غيرَه، واختارَه ابنُ عطية بادِئاً به فإنه قال: " والكلامُ المرادُ في الآية إنما هو النطقُ باللسان لا الإِعلامُ بما في النفسِ، فحقيقةُ هذا الاستثناءِ أنه استثناءٌ منقطعٌ " ثم قال: " وذهب الفقهاءُ إلى أنَّ الإِشارةَ ونحوَها في حكمِ الكلامِ في الأَيْمان ونحوِها، فعلى هذا يَجِيءُ الاستثناءُ متصلاً ".

السابقالتالي
2 3