الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ }

قوله تعالى: { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ }: يجوز أن تكون الناقصة، وفي خبرها حينئذ وجهان، أحدهما: " أنَّى " لأنها بمعنى كيف، أو بمعنى مِنْ أين: و " لي " على هذا تبيينٌ. والثاني: أنَّ الخبرَ الجار و " كيف " منصوبٌ على الظرف. ويجوزُ أَنْ تكونَ التامَّة فيكونُ الظرفُ والجار كلاهما متعلِّقَيْنِ بـ " يكون " لأنه تام، أي: كيف يحدث لي غلام، ويجوز أن يتعلَّقَ/ بمحذوفٍ على أنه حال من " غلام " لأنه لو تأخَّر لكان صفةً له.

وقوله: { وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ } جملةُ حاليةٌ، وفي موضع آخرَوَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ } [مريم: 8] لأنَّ ما بَلَغَكَ فقد بَلَغْتَه. وقيل: لأنَّ الحوادثَ تَطْلُب الإِنسانَ. وقيل: هو من المَقْلوب كقوله:
1264ـ مثلُ القنافِذِ هَدَّاجون قد بَلَغَتْ     نجرانُ أو بُلِّغَتْ سَوْءاتِهِمْ هَجَرُ
ولا حاجةَ إليه.

وقدَّم في هذه السورة حالَ نفسه، وأخَّر حالَ امرأته، وفي مريم عَكَس، فقيل: صدرُ الآيات في مريم مطابِقٌ لهذا التركيبِ لأنه قَدَّمَ وَهْنَ عظمِه واشتعالَ شَيْبِه وخِيفَةَ مواليهِ من ورائه، وقال: { وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً } فلمَّا أعَاد ذِكْرهما في استفهامٍ آخر ذَكَر الكِبَر ليوافِق " عِتِيَّاً " رؤوسَ الآي، وهو باب مقصود في الفصاحة، والعطفُ بالواو لا يقتضي ترتيباً زمانياً، فلذلك لم يُبالَ بتقديم ولا تأخير.

والغلامُ: الفتيُّ السنِّ من الناسِ وهو الذي... شاربُه، وإطلاقُه على الطفلِ وعلى الكهلِ مجاز، أمَّا الطفلُ فللتفاؤل بما يَؤُول إليه، وأمَّا الكهلُ فباعتبارِ ما كانَ عليه. قالت ليلى الأخيلية:
1265ـ شَفاها من الداءِ العُضالِ الذي بها     غلامٌ إذا هَزَّ القناةَ شَفاها
وقال بعضُهم: ما دام الولدُ في بطن أمه سُمِّي " جنيناً ". قال تعالى:وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ } [النجم: 32]، سُمِّي بذلك لاجتنانِه في الرَّحمِ، فإذا وُلِد سُمِّي " صبياً " فإذا فُطِمَ سُمِّي " غُلاماً " إلى سبع سنين، ثم سُمِّي يافعاً إلى أن يَبْلُغَ عشر سنين، ثم يُطْلق عليه " حزَوَّر " إلى خمس عشرة، ثم يصير " قُمُدَّاً " إلى خمسٍ وعشرين سنة، ثم، " عَنَطْنَطَا " إلى ثلاثين قال:
1266ـ وبالجَعْدِ حتى صارَ جَعْداً عَنَطْنَطاً     إذا قامَ ساوى غاربَ الفحلِ غارِبُهْ
ثم " حُمُلا " إلى أربعين ثم " كَهْلاً " إلى خمسين، ثم " شيخاً " إلى ثمانين ثم " هَمٌّ " بعد ذلك.

واشتقاق الغُلام من الغُلْمة والاغتِلام، وهو طَلَبُ النكاح، لَمَّا كان مسبَّباً عنه أُخِذَ منه لفظُه، ويقال: " اغتَلَم الفحلُ " أي: اشتدَّتْ شهوتُه إلى طَلَبِ النكاح، واغتلَم البحر أي: هاجَ وتلاطَمَتْ أمواجه مستعار منه، وقياسُه في القلةِ أَغْلِمة، وفي الكثرة: غِلْمان، وقد جُمع على غِلْمَة شذوذاً، وهل هذه الصيغةُ جمعُ تكسير أم اسم جمع؟ قال الفراء: " يقال غلامٌ بيِّنُ الغُلومَة والغُلومِيَّة والغُلامِيَّة " قال: " والعربُ تجعلُ مصدرَ كلِّ اسمٍ ليسَ له فعلٌ معروفٌ على هذا المثالِ، فيقولون: عَبْدٌ بَيِّنُ العُبودة والعُبودِيَّة والعُبادِيَّة " يعني لم تتكلم العرب من هذا بِفِعْلٍ.

السابقالتالي
2 3