الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ }

قولُه تعالى: { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ }: قرأ الأخَوان: " فناداه " من غيرِ تاء تأنيث، والباقون: " فنادَتْه " بتاء التأنيث. والتذكيرُ والتأنيث باعتبار الجمع المكسر، فيجوز في الفعل المسند إليه التذكيرُ باعتبار الجمع، والتأنيثُ باعتبار الجماعة، ومثل هذا:إِذْ يَتَوَفَّى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمَلاۤئِكَةُ } [الأنفال: 50] يُقرأ بالتاء والياء، وكذا قوله:تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } [المعارج: 4]. قال الزجاج: " يَلْحقها التأنيثُ للفظ الجماعة، ويجوزُ أَنْ يُعَبِّر عنها بلفظ التذكير لأنه يقال: جَمْعُ الملائكة، وهذا كقوله:وَقَالَ نِسْوَةٌ } [يوسف: 30] انتهى وإنما حَسَّنَ الحذفَ هنا الفصلُ بين الفعلِ وفاعِله.

وقد تَجَرَّأ بعضُهم على قراءة العامة فقال: " أكرهُ التأنيث لِمَا فيه من مو-افقة دعوى الجاهلية؛ لأن الجاهلية زعمت أن الملائكة إناث. وتجرَّأ/ أبو البقاء على قراءة الأخوين فقال: " وكره قوم قراءة التأنيث لموافقة الجاهلية، فلذلك قرأ مَنْ قرأ: " فناداه " بغير تاءٍ، والقراءةُ به غيرُ جيدة لأنَّ الملائكةَ جمعٌ، وما اعتلُّوا به ليس بشيء، لأنَّ الإِجماع على إثبات التاء في قوله:وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ } [آل عمران: 42]. وهذان القولان الصادران من أبي البقاء وغيرِه ليسا بجيدين، لأنهما قراءتان متواترتان، فلا ينبغي أن تُرَدَّ إحداهما البتة.

والأخَوان على أصلِهما مِنْ إمالةِ " فناداه " ، والرسمُ يَحتمل القراءتين معاً أعني التذكيرَ والتأنيثَ.

والجمهورُ على أنَّ الملائكةَ المرادُ بهم واحدٌ وهو جبريلُ. قال الزجاج: " أتاه النداء من هذا الجِنس الذين هم الملائكةُ كقولِك: " فلان يركب السفنَ " أي: هذا الجنسَ " ومثلُه:ٱلَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ٱلنَّاسُ } [آل عمران: 173] وهم نعيم بن مسعود. وقوله " إنَّ الناس " يعني أبا سفيان، ولَمَّا كان جبريل رئيسَ الملائكة أَخْبَرَ عنه إخبارَ الجماعة تعظيماً له. وقيل: " الرئيس لا بُدَّ له من أتباع، فلذلك أَخْبَر عنه وعنهم، وإنْ كان النداءُ إنما صدر منه " ، ويؤيِّدُ كونَ المنادى جبريلَ وحدَه قراءةُ عبدِ الله، وكذا في مصحفه: " فناداه جبريل " ، والعطفُ بالفاء في قوله: { فَنَادَتْهُ } مُؤْذِنٌ بأنَّ الدعاء مُعْتَقِبٌ بالتبشير.

قوله: { وَهُوَ قَائِمٌ } جملةٌ حالية من مفعولِ النداء، و " يصلي " يحتمل أوجهاً، أحدها: أن يكونَ خبراً ثانياً عند مَنْ يرى تعدُّدَهُ مطلقاً نحو: " زيدٌ شاعرٌ فقيه ". الثاني: أنه حالٌ ثانية من مفعول النداء، وذلك أيضاً عند مَنْ يُجَوِّز تعدُّدَ الحال. الثالث: أنه حالٌ من الضمير المستتر في " قائم " فيكونُ حالاً من حال. الرابع: أن يكونَ صفةً لقائم.

قوله: { فِي ٱلْمِحْرَابِ } متعلقٌ بيُصَلِّي، ويجوزُ أنْ يتعلَّقَ بقائم إذا جَعَلْنا " يُصَلِّي " حالاً من الضمير في " قائم "؛ لأنَّ العامِلَ فيه حينئذٍ وفي الحالِ شيءٌ واحدٌ فلا يلزَمُ منه فصلٌ، أمَّا إذا جَعَلْناهُ خبراً ثانياً أو صفةً لقائم أو حالاً من المفعولِ لَزِمَ الفصلُ بين العامِلِ ومعمولِه بأجنبي، هذا معنى كلامِ الشيخ، والذي يظهر أنه يجوز أن تكونَ المسألةُ من باب التنازع، فإنَّ كلاً من قائم ويصلِّي يَصِحُّ أَنْ يتسَلَّطَ على " في المحراب " ، وذلك جائِزٌ على أيِّ وجهٍ تَقَدَّم من وجوهِ الإِعرابِ.

السابقالتالي
2 3 4