الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ }

قوله تعالى: { هُنَالِكَ دَعَا }: " هنا " هو الاسمُ واللامُ للبعد والكافُ حرفُ، وهو وِزانُ " ذلك " ، وهو منصوبٌ على الظرفِ المكاني بـ " دعا " ، أي: في ذلك المكان الذي رأى فيه ما رأى مِنْ أَمْرِ مريم، وهو ظرفٌ لا يتصرَّفُ بل يلزم النصبَ على الظرفية، وقد يُجَرُّ بـ " مِنْ " و " إلى " قال الشاعر:
1250ـ قد وَرَدَتْ مِنْ أَمْكِنَهْ     مِنْ ههنا ومِنْ هُنَهْ
وحكمُه حكمُ " ذا " مِنْ كونِهِ يُجَرَّد من حرف التنبيه ومن الكاف واللام نحو: هنا، وقد تصحبه " ها " التنبيه نحو: ههنا، ومع الكافِ قليلاً نحو: " ها هناك " ، ويمتنعُ الجمعُ بين ها واللام. وأخواتُهُ: هَنَّا بتشديد النون مع فتح الهاء وكسرها، وثَمَّ بفتح الثاء، وقد يقال هَنَّتْ، ولا يُشار بهذه إلا للبعيد خاصة، ولا يشار بهنالك وما ذُكِرَ معه إلا للأمكنة.

وقد زعم بعضُهم أنَّ " هناك " و " هنالك " و " هَنَّا " للزمان، فمِنْ ورودِ " هنالك " بمعنى الزمان عند بعضِهم هذه الآية أي: في ذلك الزمان، ومثلُه:هُنَالِكَ ٱبْتُلِيَ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [الأحزاب: 11] ومنه قولُ زهير:
1251ـ هنالك إنْ يُسْتَخْبَلُوا المالَ يُخْبِلُوا   .......................
والظاهر أنه على مكانِيَّتِه. ومن ورود " هناك " قوله:
1252ـ وإذا الأمورُ تعاظَمَتْ وتشابَهَتْ     فهناك يعترفون أين المفزَعُ
ومن ورود هَنَّا قوله:
1253ـ حَنَّتْ نَوارِ ولاتَ هَنَّا حَنَّتِ     وبدا الذي كانت نوارِ أَجَنَّتِ
لأن " لات " لا تعمل إلا في الأحيان، وفي البيت كلامٌ أطولُ من هذا. وفي عبارة السجاوندي أن " هناك " في المكان و " هنالك " في الزمان، وهو سهوٌ، لأنها للمكان سواءً تجردت أم اتصلت بالكاف واللام معاً أم بالكاف دون اللام.

قوله: { مِن لَّدُنْكَ } يجوز فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بـ " هَبْ " وتكونُ " مِنْ " لابتداء الغاية مجازاً أي: هَبْ لي من عندِك، ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ على أنه في الأصل صفةٌ لذرية، فلما قُدِّم عليها انتصبَ حالاً. وقد تقدَّم الكلامُ على لدن وأحكامِها ولغاتِها. وقوله: { سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } مثالُ مبالغة مُحَوَّل من " سامِع " وليس بمعنى " مُسْمِع " لفسادِ المعنى.

وقوله: { طَيِّبَةً } نْ أرادَ بـ " ذرية " الجنسَ فيكونُ التأنيثُ في " طيبة " باعتبارِ تأنيثِ الجماعة، وإنْ أرادَ به ذَكَراً واحداً فالتأنيث باعتبار اللفظ. قال: الفراء: " وأَنَّث " طيبة " لتأنيثِ لفظِ " الذرية " كما قال الشاعر:
1254ـ أبوكَ خليفةٌ وَلَدَتْهُ أخرى     وأنت خليفةٌ، ذاك الكمالُ
وهذا فيما لم يُقْصَدُ به واحدٌ معيَّنٌ، أمَّا لو قُصِدَ به واحدٌ معيَّنٌ امتَنَعَ اعتبارُ اللفظِ نحو: طلحة وحمزة، وقد جَمَعَ الشاعرُ بين التذكيرِ والتأنيث في قوله:
1255ـ فما تَزْدَري من حَيَّةٍ جَبَلِيَّة     سُكاتٍ إذا ما عَضَّ ليس بِأَدْرَدَا
لأنَّ المرادَ بحيَّة اسمُ الجنسِ لا واحدٌ بعينه.