الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }

قوله تعالى: { فَتَقَبَّلَهَا }: الجمهور على " تَقَبَّلها " فعلاً ماضياً على تَفَعَّل بتشديدِ العين، و " ربُّها " فاعل بِهِ. وتفعَّل يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكونَ بمعنى المجرد أي: فَقَبِلها، بمعنى رَضِيها مكانَ الذَّكَر المنذور، ولم يَقْبَلْ أنثى منذورةً مثلَ مريم، كذا جاء في التفسير، وتَفَعَّل يأتي بمعنى فَعِل مجرداً نحو: تَعَجَّب وعَجِب من كذا، وتبرَّأ وبَرِىء منه. والثاني: أن تفعَّل بمعنى استفعل، أي: فاستقبلها ربُّها يقال: استقبلْتُ الشيء أي: أخذْتُه أولَ مرة، والمعنى: أنَّ الله تولاها في أول أمرها وحين ولادتِها ومنه قوله ـ هو القطامي ـ:
1244ـ وخيرُ الأمرِ ما استقبَلْتَ منه     وليس بأَنْ تَتَبَّعَه اتِّباعاً
ومنه المَثَلُ: " خُذِ الأمر بقَوابله ". وتفعَّل بمعنى استفعل كثير نحو: تَعَظَّم واستعظم، وتكبَّر واستكبر، وتَقَصَّيْت الشيء، واستقصَيْتُه وتَعَجَّلَته واستَعْجَلْتُه.

والباءُ في قولِه: { بِقَبُولٍ } فيها وجهان، أحدُهما. أنها زائدة أي: قَبولاً، وعلى هذا فينتصب، " قبولاً " على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد؛ إذ لو جاء على تقبُّل لقيل: تَقَبُّلا نحو: تكبَّر تكبُّرا. وقَبول من المصادر التي جَاءَتْ على فَعُول بفتح الفاء، وقد تقدَّم ذكرُها أول البقرة، يقال: قَبِلْتُ الشيء قَبولاً. وأجاز الفراء والزجاج ضمَّ القاف من " قبول " ، وهو القياسُ كالدُّخول والخُروج، وحكاها ابن الأعرابي عن العرب: قبلته قَبولاً وقُبولاً فتح القاف وضمِّها سماعاً عن العرب، و " على وجهه قُبول " لا غيرُ، يعني لم يُقَلْ هنا إلا بالضم، وأنشدوا:
1245ـ...............................    ...... والوجه عليه القُبول
بضم القاف كذا حكاهُ بعضُهم.

وقال الزجاج: " إن " قبولاً هذا ليس منصوباً بهذا الفعل حتى يكون مصدراً على غير الصدر، بل هو منصوبٌ بفعل موافقٍ له أي: مجردٍ قال: " والتقدير: فتقبَّلَها يتقبُّل حسن وقَبِلها قَبولاً حسناً أي: رضيها وفيه بُعْدٌ.

والوجه الثاني: أن الباءَ ليست زائدةً، بل هي على حالها، ويكون المرادُ بالقَبول هنا اسماً لِما يُقْبل به الشيءُ نحو: " اللَّدود " لِما يُلَدُّ به، والسَّعوطِ: لما يُسْعَطُ به، والمعنى بذلك اختصاصهُ لها بإقامتها مقامَ الذكَرِ في النَّذْر.

وقوله: { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً } نبات أيضاً مصدرٌ على غير الصدر؛ إذ القياسُ: إنبات. وقيل: بل هو منصوبٌ بمضمرٍ موافقٍ له أيضاً تقديرُه: فنبتَتْ نباتاً حسناً.

وقوله: { وَكَفَّلَهَا } قرأ الكوفيون: " وكَفَّلَها " بتشديد العين، " زكريا " بالقصر، إلا أبا بكر فإنه قرأه بالمدِّ كالباقين، ولكنه يَنْصِبُه، والباقون يرفعونه كما سيأتي.

وقرأ مجاهد: " فتقبَّلْها " بسكون اللام، " ربَّها " منصوباً، و " أنبِتها " بكسر الباء وسكون التاء، و " كَفِّلْها " بكسر الفاء وسكون اللام، وقرأ أُبَيٌّ: " وأَكْفَلَها " كـ " أَكْرَمَها " فعلاً ماضياً.

السابقالتالي
2 3 4