قوله تعالى: { فَتَقَبَّلَهَا }: الجمهور على " تَقَبَّلها " فعلاً ماضياً على تَفَعَّل بتشديدِ العين، و " ربُّها " فاعل بِهِ. وتفعَّل يحتمل وجهين، أحدهما: أن يكونَ بمعنى المجرد أي: فَقَبِلها، بمعنى رَضِيها مكانَ الذَّكَر المنذور، ولم يَقْبَلْ أنثى منذورةً مثلَ مريم، كذا جاء في التفسير، وتَفَعَّل يأتي بمعنى فَعِل مجرداً نحو: تَعَجَّب وعَجِب من كذا، وتبرَّأ وبَرِىء منه. والثاني: أن تفعَّل بمعنى استفعل، أي: فاستقبلها ربُّها يقال: استقبلْتُ الشيء أي: أخذْتُه أولَ مرة، والمعنى: أنَّ الله تولاها في أول أمرها وحين ولادتِها ومنه قوله ـ هو القطامي ـ:
1244ـ وخيرُ الأمرِ ما استقبَلْتَ منه
وليس بأَنْ تَتَبَّعَه اتِّباعاً
ومنه المَثَلُ: " خُذِ الأمر بقَوابله ". وتفعَّل بمعنى استفعل كثير نحو: تَعَظَّم واستعظم، وتكبَّر واستكبر، وتَقَصَّيْت الشيء، واستقصَيْتُه وتَعَجَّلَته واستَعْجَلْتُه. والباءُ في قولِه: { بِقَبُولٍ } فيها وجهان، أحدُهما. أنها زائدة أي: قَبولاً، وعلى هذا فينتصب، " قبولاً " على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد؛ إذ لو جاء على تقبُّل لقيل: تَقَبُّلا نحو: تكبَّر تكبُّرا. وقَبول من المصادر التي جَاءَتْ على فَعُول بفتح الفاء، وقد تقدَّم ذكرُها أول البقرة، يقال: قَبِلْتُ الشيء قَبولاً. وأجاز الفراء والزجاج ضمَّ القاف من " قبول " ، وهو القياسُ كالدُّخول والخُروج، وحكاها ابن الأعرابي عن العرب: قبلته قَبولاً وقُبولاً فتح القاف وضمِّها سماعاً عن العرب، و " على وجهه قُبول " لا غيرُ، يعني لم يُقَلْ هنا إلا بالضم، وأنشدوا:
1245ـ...............................
...... والوجه عليه القُبول
بضم القاف كذا حكاهُ بعضُهم. وقال الزجاج: " إن " قبولاً هذا ليس منصوباً بهذا الفعل حتى يكون مصدراً على غير الصدر، بل هو منصوبٌ بفعل موافقٍ له أي: مجردٍ قال: " والتقدير: فتقبَّلَها يتقبُّل حسن وقَبِلها قَبولاً حسناً أي: رضيها وفيه بُعْدٌ. والوجه الثاني: أن الباءَ ليست زائدةً، بل هي على حالها، ويكون المرادُ بالقَبول هنا اسماً لِما يُقْبل به الشيءُ نحو: " اللَّدود " لِما يُلَدُّ به، والسَّعوطِ: لما يُسْعَطُ به، والمعنى بذلك اختصاصهُ لها بإقامتها مقامَ الذكَرِ في النَّذْر. وقوله: { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً } نبات أيضاً مصدرٌ على غير الصدر؛ إذ القياسُ: إنبات. وقيل: بل هو منصوبٌ بمضمرٍ موافقٍ له أيضاً تقديرُه: فنبتَتْ نباتاً حسناً. وقوله: { وَكَفَّلَهَا } قرأ الكوفيون: " وكَفَّلَها " بتشديد العين، " زكريا " بالقصر، إلا أبا بكر فإنه قرأه بالمدِّ كالباقين، ولكنه يَنْصِبُه، والباقون يرفعونه كما سيأتي. وقرأ مجاهد: " فتقبَّلْها " بسكون اللام، " ربَّها " منصوباً، و " أنبِتها " بكسر الباء وسكون التاء، و " كَفِّلْها " بكسر الفاء وسكون اللام، وقرأ أُبَيٌّ: " وأَكْفَلَها " كـ " أَكْرَمَها " فعلاً ماضياً.