الرئيسية - التفاسير


* تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق


{ فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَـٰرِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَـٰتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَـٰرُ ثَوَاباً مِّن عِندِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ ٱلثَّوَابِ }

قوله تعالى: { أَنِّي لاَ أُضِيعُ }: الجمهورُ على فتح " أَنَّ " والأصل: بأني، فيجيء فيها المذهبان. وقرأ أُبَيّ: " بأني " على هذا الأصل. وقرأ عيسى بن عمر بالكسرِ وفيه وجهان، أحدهما: أنه على إضمارِ القول أي: وقال إني. والثاني: أنه على الحكاية بـ " استجاب " لأن فيه معنى القول، وهو رأي الكوفيين.

و " استجاب " بمعنى أجاب، ويتعدَّى بنفسه وباللام، وتقدَّم تحقيق ذلك في قوله:فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي } [البقرة: 186]. ونقل تاج القُرَّاء أن " أجاب " عام، و " استجاب " خاص في حصول المطلوب.

والجمهورُ: " أُضيع " من أضاع, وقرىء بالتشديد والتضعيف، والهمزةُ فيه للنقل كقوله:
1515ـ كمُرْضِعَة أولادَ أُخرى وضَيَّعَتْ     بني بَطْنِها، هذا الضلالُ عن القصدِ
قوله: " منكم " في موضعِ جر صفةً لـ " عامل " أي كائنٍ منكم.

وأمَّا " مِنْ ذَكَرٍ " ففيه خمسة أوجه، أحدُها: أنها لبيان الجنس، بَيَّنَ جنس العامل، والتقدير: الذي هو ذكر أو أنثى، وإن كان بعضُهم قد اشترط في البيانية أن تدخل على مُعَرَّف بلام الجنس، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك. الثاني: أنها زائدة لتقدُّم النفي في الكلام، وعلى هذا فيكون " مِنْ ذَكَر " بدلاً من نفسِ " عامل " كأنه قيل: عاملٍ ذَكَرٍ أو أنثى، ولكنْ فيه نظرٌ من حيث إنَّ البدلَ لا يُزاد فيه " مِنْ ". الثالث: أنها متعلقة بمحذوف؛ لأنها حالٌ من الضمير المستكنِّ في " منكم " ، لأنه لَمَّا وقع صفة تَحَمَّل ضميراً، والعاملُ في الحالِ العاملُ في " منكم " أي: عاملٍ كائن منكم كائناً من ذكر. الرابع: أَنْ يكونَ " مِنْ ذكرٍ " بدلاً مِنْ " منكم " ، قال أبو البقاء " وهو بدلُ الشيء من الشيء وهما لعينٍ واحدةٍ " يعني فيكونُ بدلاً تفصيلياً بإعادةِ العاملِ كقوله:لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ } [الأعراف: 75]لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ } [الزخرف: 33]. وفيه إشكالٌ من وجهين، أحدهما: أنه بدلٌ ظاهرٍ من حاضر في بدلِ كلٍّ من كل وهو لا يجوزُ إلا عند الأخفش. وقَيَّد بعضُهم جوازَه بأَنْ يفيدَ إحاطةَ كقوله:
1516ـ فما بَرِحَتْ أقدامُنا في مَقامِنا     ثلاثتُنا حتى أُزيروا المنائيا
قوله تعالى:تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } [المائدة: 114] فلمَّا أفادَ الإِحاطةَ والتأكيدَ جاز. واستدلَّ الأخفشُ بقوله:
1517ـ بكمْ قريشٍ كُفِينا كلَّ مُعْضِلَةٍ     وأمَّ نهَجَ الهدى مَنْ كان ضِلِّيلا
وقول الآخر:
1518ـ وشَوْهاءَ تَعْدُو بي إلى صارخِ الوغَى     بمُسْتَلْئِمٍ مثلِ الفَنيق المُدَجَّل
فـ " قريش " بدلٌ من " كم " ، و " بُمْستلئم " بدل من " بي " بإعادة حرفِ الجرِّ، وليس ثَمَّ لا إحاطةٌ ولا تأكيدٌ، فمذهبه يمشي على رأيِ الأخفشِ دونَ الجمهور.

الثاني: أنَّ البدل التفصيلي لا يكون بـ " أو " ، وإنما يكون بالواو لأنها للجمع كقوله:

السابقالتالي
2 3